بين المقاومة والقتال الصراعي الهجومي
من المفاسد التي عانينا منها، وتعاني منها متحداتنا الاجتماعيّة، انتشار فوضى المفاهيم التي تربك عملية التواصل العقلي والعلميّ بين الإمكانيات الإنسانيّة، وتعرقل عملية التفاعل الطبيعي البنّاء بين فعاليات الحياة، ممّا يؤثّر سلبًا على مجرى حياتنا المجتمعيّة؛ علمًا أنّ وضوح المفاهيم المرتكزة على نظرة شاملة إلى الحياة والكون والفن، هو المعبر الإلزامي لولوج العالم النهضوي الذي نسعى إليه ونعمل من أجله.وإذا كانت الحالة الفوضويّة متغلغلة في نفوس كثيرين من أبناء شعبنا، وهي كذلك، فإنّها كانت وما زالت تجد سدًّا منيعًا في وجهها، حين تصل إلى القوميين الاجتماعيين الذين تقوّوا بالمعرفة، وتحرّروا بفعلها الزاخم من كلّ عناصر الجهل والفوضى، وهم بفعل انكبابهم الدائم على التراث القومي، والتزامهم بمقوّمات العمل النهضوي فكرًا وممارسة، موقنون بأن انتصارهم هو حتميّ مهما طال الوقت وتراكمت المعوقات.
ولكن يبدو أنّ البعض أصابه مرض التهاون في الدرس والتعمّق بمستلزمات البناء، لكأنّ الأمراض الاجتماعيّة المستشرية، قد وجدت طريقها إلى نفوس من استهان بضرورة المتابعة التثقيفية التي لا حدّ زمانيًّا أو مكانيًّا لها، فوقع في دارجيّة الاستعمال اللفظي للمفردات، علمًا أنّ الزعيم شدّد على إلزاميّة استعمال المفردات بمعناها الدقيق للحدّ من استشراء الفوضى وانتشار التخبّط والبلبلة.
أوليست النهضة خروجًا من “التفسّخ والتضارب والشكّ إلى الوضوح والجلاء واليقين والإيمان والعمل بإرادة واضحة وعزيمة صادقة”؟وانطلاقًا من قاعدة الوضوح والجلاء يؤكّد الزعيم في رسالة إلى غسان تويني في 4 آب 1946، على: “الضرورة اللفظية للعقيدة، فلا نقول سورية إلاّ حين نعني سورية القوميّة المحدّدة في مبادئنا….” وبالتالي فإنّ أيّ لفظ مستعمل تُعطى دلالته من خلال العقيدة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة؛ وطبيعيّ أنّ هذا الأمر يتطلبّ متابعة مركّزة لحقيقة النهضة القوميّة الاجتماعيّة. وعليه، فإن المطلوب في هذه الظروف المصيرية ألاّ نجاري المستعمَل من الألفاظ حتى ولو بات هو الغالب على الصعيد الإعلامي، فهذا لا يعطينا جواز مرور لإحلال الألفاظ والمفاهيم الدارجة محلّ ألفاظنا ومفاهيمنا، لكي لا نعود القهقرى، إلى مرحلة الحالة المضطربة والغامضة والجاهلة التي سبقت النهضة القوميّة الاجتماعية.فلو راجعنا ما زوّدنا به سعادة، لوجدنا أنّه حين يستعمل لفظة “مقاومة”، على قلة استعماله لها، يستعملها في الإطار اللغوي الصحيح الذي قد يفيد حالة سلبية، وقد يفيد حالة إيجابية، من خلال عمليّة مواجهة لا ترقى إلى مستوى الهجوم المصمّم والقتال الإراديّ الهادف، ولا إلى مستوى الصراع الذي لا ينتظر فعلاً ليردّ الفعل؛ فالمقاومة هي مواجهة ومضادّة ومغالبة، في حين أنّ عقيدتنا هي فعل، فعل قتال وهجوم وصراع وجهاد ونضال.
في الصراع عراك ومغالبة، وفي الهجوم فعل حرب على العدوّ والمفاسد، وفي القتال محاربة ومعاداة، وفي الجهاد قتال العدوّ ومكافحته دفاعًا عن الوطن، وفي النضال دفاع وكفاح من أجل حريّة الشعب واستقلال الوطن.يقول سعادة:” إنّ الرجعيّة تقاوم الحزب السوريّ القوميّ… أمّا نحن فإننا نحارب في سبيل مصالح الشعب”.وإنّ استعماله لها لا ينسجم مع الاستعمال الدارج اليوم، والذي جعل بعض القوميين ينسون حقيقة المفردات التي تعبّر عن حالة الصراع مع عدوّنا اليهوديّ، ويصلون إلى حدّ الإعلان:”… إنّ المقاومة هي السبيل الوحيد لتحرير الأرض”. فهل هذا الإعلان ينسجم مع حقيقة فكرنا وعقيدتنا ونهضتنا؟؟؟
قبل أن نثبت ما قاله سعادة في المقاومة لا بدّ من إيضاح معنى المقاومة لغويًّا في مقابل معاني الهجوم والقتال والصراع والجهاد والنضال.”قاوم أعداء بلاده: ناضل ضدّهم- عارضهم بالقوّة.قاومه في المصارعة:غالبه.قاوم العدوّ: واجهه وضادّه.وقاومت الرياح سير السفينة: منعتها السير والتقدّم.وصارع: عارك وغالب.هاجم: هجم واجتاح.قاتل: حارب وعادى.جاهد: قاتل وكافح دفاعًا عن الوطن واستقلاله.ناضل: دافع وكافح.وإذا ما أحصينا كتابات سعادة يتبيّن لنا أنّ كلمة مقاومة تتوزّع على مواضيع عالميّة، وبعضها داخليّ سوريّ، وهي قياسّا بالألفاظ التي يركّز عليها الزعيم في كتاباته، لا تشكّل المادّة التي يصوّب عليها كثيرًا؛ بل تأتي في سياق عام. فهو يتحدّث عن المقاومات الألمانية والصينيّة والمقاومة للفاشستية، ولامتداد النفوذ الإيطالي، والمقاومة الهنديّة، ومقاومة “المحور”، كما يصف بعض المقاومات بالسلبية والسلميّة والآليّة.وعلى الصعيد الداخليّ السوريّ، وهو مرمى تصويبنا، يتحدّث الزعيم عن “المقاومة الرجعيّة” في خطاب صافيتا و”أشكال المقاومة الأخرى” في مقالته “المشروع الصهيوني بعد مشروع التقسيم” حيث يقول: “… لقد انتصرنا على الاضطهاد ولم يبقَ علينا إلاّ الانتصار على المقاومة المتلبّسة بلباس الوطنيّة.””إنّ الرجعيّة تقاوم الحزب السوري القومي الاجتماعيّ”إنّ الرجعيّة تقاوم تقدّم الحزب، السوري القومي الاجتماعيّ”إنّ الرجعيّة تقاوم الحزب السوري القومي الاجتماعيّ لأنه يؤمّن مصلحة المنتج من أيّ صنفٍ كان”؛ وعن “المقاومة الاعتباطية في فلسطين” في مقالته “حقيقة الصراع في سورية”، “ألا ندرك جيّدًا خديعة حركات المقاومة الاعتباطية في فلسطين؟”؛ و”المقاومة الداخليّة التي قام بها الرجعيّون والنفعيّون”؛واضحّ من خلال هذه الاستعمالات لكلمة مقاومة أنّها تعني المواجهة لما هو قيميّ أحيانًا، وأحيانًا أخرى لما هو سوئيّ. بالإضافة إلى أنها لا تعبّر التعبير الذي هو في دائرة الانتشار اليوم ميدانيًّا وفكريًّا، قياسًا بمفردات أخرى ترقى إلى مستوى الفكر القوميّ الاجتماعيّ والتي شدّد عليها الزعيم في كلّ كتاباته، كالهجوم والصراع والقتال والنضال والجهاد والحرب.
“نحن حركة هجومية لا حركة دفاعية. نهاجم بالفكر والروح، ونهاجم بالأعمال والأفعال أيضًا. نحن نهاجم الأوضاع الفاسدة القائمة التي تمنع أمّتنا من النمو ومن استعمال نشاطها وقوتها. نهاجم المفاسد الاجتماعية والروحية والسياسية.”نهاجم الحزبيات الدينية،”نهاجم الإقطاع المتحكم بالفلاحين،”نهاجم الرأسمالية الفردية الطاغية،”نهاجم العقليات المتحجرة المتجمدة،”نهاجم النظرة الفردية. ونستعد لمهاجمة الأعداء الذين يأتون ليجتاحوا بلادنا بغية القضاء علينا، لنقضي عليهم. (المحاضرة التاسعة من المحاضرات العشر. 21 آذار 1948).وفي خطاب له في جل الديب في شباط 1948 يقول: “… نحن حركة مهاجمة تأتي بتعاليم جديدة تهاجم بها المفاسد والفوضى التي بسببها بقي الشعب في الوضع المؤسف المحزن الموجود فيه.”نحن بطبيعة نشوئنا قوّة مهاجمة، لا مدافعة.”نهاجم الأوضاع والأنظمة والأمور التي لم تعد صالحة لحياة شعبٍ حرّ.”نحن نهاجم العقليات المتأخّرة،”نحن حركة مهاجمة في طبيعتنا.
“… إنّ هجومنا هجوم هجوميّ”.- “ويل للمستسلمين الذين يرفضون الصراع فيرفضون الحرية وينالون العبودية التي يستحقون.- “فقضية الصراع المميت بين تاريخ حديث وتواريخ دخيلة مستمرة- قضية الصراع الفاصل بين نفسية فتية تنظر إلى الحياة والكون والفن نظرة جديدة ونفسيات شائخة اعتادت النظر إلى شؤون الحياة والكون ضمن الحدود المغلقة التي تكوّنت فيها. فقضية الصراع العقائدي الذي أثارته الحركة السورية القومية الاجتماعية بتعاليمها الجديدة هي قضية صراع ثقافي تعليمي بين مبادئ الحياة الجديدة ومبادئ الحياة الجامدة.- “هذا موقفنا وهذا يعني عراكنا نحن، العراك الداخلي في الأمّة، لا يمكننا أن نصل إلى صيانة مصلحة الأمّة ولا الانتقال إلى الصراع الخارجي لصيانة الأمّة من الأخطار الخارجية قبل أن نتمكن من إنهاء الحرب الداخلية.- “إنها حرب عنيفة، إنها حرب بين إرادة الأمّة وبين الإرادات الخصوصية.- “إنه صراع قد استغرق ستة عشر عامًا ولا نزال في بدء الطريق.
إنه صراع يستمر إلى أن تسحق إحدى هاتين القوتين القوة الأخرى سحقًا تامًا لا قيام لها بعده. إننا نحن القوميين الاجتماعيين قد وضعنا في هذا الصراع كلّ سلامتنا.. كلّ مصالحنا، كلّ شيء عندنا في الحياة، لأننا لا نجد الحياة خليقة بأن يحياها الإنسان إلا إذا كانت حياة حرية، حياة عزّ.- “هذا الصراع ينقذ الأمّة من الاتكال على شيوعية تأتمر بأوامر أجنبية من موسكو وينتصر أيضًا على أوامر يمكن أن تأتي من لندن وواشنطن أو برلين…- “إن الحزب القومي الاجتماعي هو حزب، من أركان عقيدته القوة لأنه حزب يدرك أن الحياة والحرية صراع، ومن أبى الصراع رفضته الحرية، ونحن مستعدّون للصراع في كلّ دقيقة. نحن صارعنا حين كان الاحتلال الأجنبي منفردين وظللنا في الساحة إلى أن انهزم. – “نحن حزب صراع، حزب قوة وقتال في سبيل عقيدة تعني وجود الأمّة السورية.
حزب صراع هنا وفي كلّ مكان. كلما عرض القتال لنا في مكان صارعنا ولن يحوّلنا عن قصدنا، عن اجتماعنا، شغب أو فوضى أو كلام. – “نحن نبحث عن القتال ولا يبحث القتال عنا. فنحن نسير لا يصدّنا عن طريق سيرنا حادث ما، عظيمًا كان أو صغيرًا، وكما سرنا في الماضي إلى هذه الانتصارات التي لا يمكن إدراك حقيقتها إلا بعد مدة من تسجيل التاريخ فإن الانتصارات المقبلة انتصارات أعظم بكثير من الانتصارات التي بلغناها اليوم. انتصرنا على الاتكالية، انتصرنا على الغايات الخارجية والغايات الخصوصية.- “بل إن كلّ مسؤولية، تؤدّى ضمن التوجيه العام، وبروح النضال الصحيحة، هي مسؤولية كبرى وأساسية تضمن فوز الأمّة في بلوغ أهدافها ومقاصدها!- “إنّ الموقف السياسي الحاضر، على أنّه ليس الموقف الأخير في النضال العنيف بين الحقوق والمصالح القومية من جهة والمصالح الإمبراطورية الاستعمارية من جهة أخرى، موقف خطر تترتّب عليه نتائج خطرة للأمّة السورية.- “هذا الترابط المتين الذي ربطتنا به مبادئ الحزب السوري القومي ومبادئ النهضة القومية، التي جمعتنا شعبًا واحدًا، وأمّة واحدة، يشترك أفرادها في الجهاد للمجد ونيل الحقوق والمصالح اشتراكًا تامًا متضامنين في السرّاء والضراء.- ” … ولكننا نبشره بأن الصراع سيكون عنيفًا بين الحق والباطل وأن الاضطهاد الذي يهدد به السوريين القوميين لن يزيدهم إلا مضيًّا في الجهاد لتحقيق مثلهم، ولاسترداد الحقوق ….- ” فالجهاد هو خير كفيل لنيل الحقوق وإحراز الحرّية، وكلّ أمّة لا تجاهد في معترك هذه الحياة توقع صكّ عبوديتها بيدها وتحكم على نفسها بالموت بنفسها.- ” … وفي مواقف متعددة بيّن الزعيم أن الجهاد القومي يجب أن يكون داخليا أولا وأن الانتصار على عناصر الرجعة والنفعيين وتجار المبادئ والأعمال، الذين لا معنى للحياة عندهم غير ابتزاز الناس والمتاجرة بشعور الشعب ومطالبه، هو شرط أساسي للانتصار على أعداء الأمّة الخارجيين.
– ” … إن شعار الزعيم من هذه الوجهة هو: “حارب الرذيلة حيثما التقيتها ولا تنفكّ عنها حتى تجهز عليها. رذائل عهد الانحطاط هي أكبر عائق لتقدّمنا وشلل لحركتنا، وانتصارُ أمّتنا على أعدائها الخارجيين يجب أن يسبقه انتصار عناصرنا الصحيحة على العناصر المصابة بمرض الانحطاط المناقبي”. من مقالة: ” تطهير المهجر من العلق والسوس”.هذه انتقاءات هادفة من كتابات سعادة، تشكّل المعيار النموذج الذي يجب أن يحفز القوميين الاجتماعيين للالتزام العقلاني بالمفردات والمصطلحات التي أوجدها الزعيم أو صوّب مضمون بعضها، لكي نحافظ على شفافيّة التواصل القوميّ بين بعضنا البعض. فلا يأخذنا الدارج من التفكير أو الممارسة خارج شموليّة عقيدتنا، بل نعيد ما هو دارج فوضويّ إلى رحاب عقيدتنا القوميّة لنبقي بثبات وتجذّر على وحدة النظرة ووحدة الفهم ووحدة التوجّه. فلا نقع في خطأ القول: “إنّ المقاومة هي السبيل الوحيد لتحرير الأرض ولهزم العدوّ”. إنّ “المبادئ القومية الاجتماعية -يقول سعادة- وحدها هي طريق الإنقاذ. فالّذين يريدون فعلاً خير الأمّة، فما عليهم إلاّ الاتّجاه نحو الحركة القومية الاجتماعية الّتي تقدّم مبادئ الإنقاذ، والّتي أوجدت الإصلاح الفعلي في صفوفها، الّذي هو نموذج رائع للإصلاح الّذي يمكن أن تقدّمه للأمّة كلّها!”.(الجيل الجديد، 18 نيسان 1949).إنّ السبيل الوحيد لتحرير الأرض والإنسان عليها؛ لا بل لتحرير الإنسان في كلّ الأوطان، هو العقيدة القوميّة الاجتماعيّة التي تبني فينا إمكانيات القدرة على الفعل وتسقط تداعيات الانفعال. هي المنطلق وهي الغاية؛ بها نحقّق نهضة الأمّة السوريّة ونعيد إليها حقيقة تاريخها المنير.
ولتحيَ سورية وليحيَ سعادة
في 2014/8/9
الرفيق نايف معتوق
Tag:نايف معتوق