خطاب أوّل حزيران 1935 نصًا وشرحًا
مع البدايات الأولى للعمل القوميّ، حيث بدأت العقيدة القوميّة الاجتماعيّة تقوم بجمع أفكار السوريين وعواطفهم، وتلمّ شمل الشباب السوريّ الذي تحيط به كلّ عوامل التفرقة والتفسّخ، وتتسرّب إلى مجرى حياته فوضى المفاهيم القوميّة المتلبّسة لباس الحقّ، وأساليب السياسة الملتوية التي تقفز فوق المصالح القوميّة العليا لتحقيق غايات خصوصيّة ضيّقة، والتي شكلت السبب الرئيس في تدنّي المستوى الاجتماعيّ العام؛
مع هذه البدايات، لا بل، منذ الساعة الأولى بدأت حركة التغيير الحقيقيّة لصالح الشعب المسلوبة حقوقه من قبل المتسلّطين عليه من حكّام وإقطاعيين ومن خارج طامعٍ بالإنسان والأرض، منذ تلك الساعة، انبثق فجر الحياة من ظلام ليل دامس، وبدأت حركة الحياة فعلها الطبيعيّ، ليتراجع الجمود أمام قوّة هذه الحركة وتتراجع معه الفوضى الملازمة له تحت عظمة النظام الملازم لفعل الحياة الدافق.
هذا الفجر الجديد نقلنا من حالة القطعانيّة إلى حقيقة الحياة الحرّة، من قطعان بشريّة إلى أمّة لها مرتكزاتها ومقوّماتها، إلى الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ الذي هو الأمّة السوريّة مصغّرةً. وبالتالي غدونا دولة قائمة على دعائم أربع، هي رموز أطراف الزوبعة القوميّة الاجتماعيّة الممثّلة في علم الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ: الحريّة والواجب والنظام والقوّة. الحريّة هي حريّة الحياة الحرّة العزيزة الكريمة، حرية الصراع من أجل الأفضل والأجود، وليست حريّة العدم، حريّة الصراع في هذا الوجود الحركيّ، وليس في عالم الغيب، صراع في هذا الوجود، من أجل هذا الوجود، للمحافظة عليه وتأمين ديمومته وجودته. صراع دائم لا يعرف الاستكانة، من أجل أن ينتصر الحقّ وتعلو الحقيقة ويسقط الباطل. إنّ الحريّة هي حريّة صراع العقائد في سبيل تحقيق مجتمعٍ أفضل ولا معنى للحريّة وراء ذلك، كما يؤكّد سعادة، وفي هذا السبيل الصراعيّ امتحانٌ للعقائد والقيم وللنفوس كذلك؛ والنتيجة دائمًا غالبٌ ومغلوبٌ، والغالبُ هو الحقّ، والمغلوب هو الباطل وإن طال الوقت. وويلٌ للعقائد الباطلة من الحريّة -الصراع لأنها ستسقط، وسقوطها سيكون مريعًا.
والواجب هو هذا الشعور العميق والوعي الراسخ بضرورة تقديم ما في كلَّ واحد منّا لأمّته ساعة تطلب ذلك، أو ساعة يشعر أحدنا أنّ الاستحقاق قد حان وعليه أن يُتمَّه بما يتوافق والقسم الذي أدّاه. فكلّ ما فينا هو من الأمّة ولها، كلّ القدرة الموجودة فينا وهبتها الأمّة لنا. هي دَين. والمدين ملزم بتأدية الدين للدائن في الوقت المحدَّد التزامًا بالعهد والميثاق. فكيف إذا كان الأمر يتعلّق بمصيرنا- بمصير أمّتنا. واجبنا أن نقدِّم حتى الأغلى والأسمى – الدماء. الدماء التي تجري في عروقنا عينها ليست ملكًا لنا، إنها وديعة الأمّة فينا متى طلبتها وجدتها. واجبنا ألاّ نبخل بتقديم كلّ ما نملك لها حين تتطلب ذلك، وإلاّ نكون قد خنّا الأمانة وفسحنا في المجال أمام التسلّل الخبيث ليعيق سير حياتنا، ولو إلى حين.
والنظام الذي هو ركن أساسيّ في عمل الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ وحياته ومورد من موارد قوّته الكبرى، هو وسيلة قويّة من وسائل الحزب ومن الخطأ أن نجعل منه هدفًا. إنّ أهميّة النظام أنّه يخدم قضيّة، والقضيّة هي قضيّة حياة، والحياة هي حياتنا السوريّة. ولولا ذلك لفقد النظام قيمته. النظام هو في الجوهر وليس في الشكل. ولا يخفى أنّ الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ هو الذي أوجد النظام، كما أنّه هو الذي أوجد التنظيم؛ وعلى الرغم من أهميتهما ودورهما، فإنّ شأن الحزب ليس محصورًا بهما كما يظنّ البعض. ذلك أنّ شأن الحزب إنّما يعود إلى إبداع الفكرة القوميّة والكشف عن شخصيّة الأمّة ومصالحها وإيضاحها، ووضع المبادئ التي تخدم مصلحة الأمّة وتجوّد حياتها وترقّيها.
وإذا كان الحزب قد تغلّب على الصعوبات والاضطهادات التي واجهته ولحقت به، فليس بعامل النظام فحسب، بل بما وراء النظام، بالسرّ الذي يكمن خلف هذا النظام؛ والسرّ هو في العقيدة التي وراء هذا النظام وكذلك في الهدف الذي أمامه. إنّ النظام هامّ بقدر ما هو ضروري لحاجة الحياة وإلاّ كان غاية حقيرة ومحاولة سقيمة. إنّ سرّ النجاح، كما يؤكّد الزعيم، ليس في النظام، بل في القوّة التي تحرّك النظام. يبقى هنا أن نورد ما ذكره الزعيم بشأن النظام والتنظيم. فالنظام يوجد طريقة العمل الموحّد المثلى لبلوغ الأهداف. أمّا التنظيم فيشمل المصالح الداخليّة على إطلاقها ويوحّدها في مصلحة الأمّة التي هي أساس كلّ نظام وتنظيم.
والرمز الرابع المكمِّل هو القوّة وهي الطاقة التي تبعث النشاط والنموّ والحركة وهي مادّيّة ونفسيّة. والقوّة النفسيّة مهما بلغت من الكمال، هي أبدًا محتاجة إلى القوّة الماديّة، بل إن القوة الماديّة دليل قوّة نفسية راقية؛ ولا يمكننا بالمنطق وحده، إظهار الحقّ مجرّدًا، أن ننال الحقّ، إذ يجب أن نصارع ونحارب لنثبت حقنا. نحن أقوياء بحقوقنا، أقوياء نفسيًّا ومنطقيًّا وعقليًّا لكنّ الاتجاه العمليّ الذي نتجهه هو إنشاء قوّة مادّيّة تدعم القوّة النفسيّة. قوّتنا النفسيّة لدليل على أننا نرفض قبول الحالات التي لا تتوافق مع تطلعاتنا وتنسجم مع حقيقة رؤانا، ولا تطيقها نفوسنا الحرّة الأبيّة. وإذا كانت لنا طلبات ورغبات في الحياة، فإنها تبقى في دائرة التمنيات إن لم نكن قادرين على تحويلها إلى فعل ميدانيّ، يجب أن تكون لنا إرادة قادرة على تحقيق المطالب، ويجب أن تكون لنا القوّة اللازمة لتحقيق تلك المطالب. فالقوّة الماديّة النابعة من حقيقة القوّة النفسيّة هي ضرورة لحماية القوة النفسيّة، ولتأمين مستلزماتها البنائيّة، وإذا أغفلنا الناحية الماديّة أثبتنا أننا أغفلنا الناحية النفسية أيضًا. من هنا كان الاهتمام بالقوّة النفسيّة الماديّة ضروريًّا ولازمًا، لأنّ الحقّ القوميّ لا يكون حقًا في معترك الأمم إلاّ بمقدار ما يدعمه من قوّة الأمّة. فالقوّة النفسية – الماديّة هي القول الفصل في إحقاق الحقّ القوميّ أو إنكاره.
هذه هي الدعائم التي أصبحت تقوم عليها الدولة القوميّة الاجتماعيّة، بها نقضنا حكم التاريخ الجائر الذي يصفنا بأننا شعب غير جدير بالحياة، غير مؤهّلٍ للبناء، وابتدأنا تاريخنا القويم، تاريخ الأمّة السوريّة الحقيقيّ، تاريخ أنّ فينا قوّة حين تفعل تغيّر وجه التاريخ، ابتدأنا تاريخ الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ. نقضُ حكم التاريخ الذي حكم علينا ظلمًا بأننا جماعة أو جماعات بشريّة متنافرة العقليات متباينة المشارب والتقاليد، لا إرادة موحّدة لها، متعايشة غير متفاعلة وتحيا حياة مشتركة، عاجزة عن تنفيذ ما تطمح له أو ما تريده، بل ما يفرضه الخارجيّ ويريده لبلوغ أغراضه وغاياته. إنّه يستخدمنا مطيّة للوصول إلى مصالحه. نقضنا هذا الحكم الباطل بعقيدتنا المعبّرة عن حقيقة حياتنا وأثبتنا بالبرهان أننا شعبٌ واحد على أرض واحدة له غاية واحدة، ونظرة واحدة إلى الحياة؛ وغدونا أبناء حياة يقررون وينفذون؛ لا يقرَّر عنهم ولا تُملى عليهم الإرادات من خارج.
من هنا كان المفهوم النهضويّ الواضح، ألا وهو الخروج من التناقض والتضارب، إلى الوضوح والجلاء والصراحة والفهم والوعي، وهو ما اتضح في المحاضرة الأولى السابقة. ما يعني أنّ هذه الفكرة النهضويّة الواضحة كانت ملازمة للحركة القوميّة الاجتماعيّة منذ نشأتها كما هو واضح في هذا الخطاب المنهاجيّ الأوّل؛ والذي يشكّل أوّل شرح لمبادئ الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ وكيفيّة فهم هذه المبادئ وتطبيقها في حياتنا العمليّة. مع التأكيد على أنّ المبادئ قوّة فاعلة في حياة تعمل وتنشئ وترتقي وتحقّق وتخلق. إنها حياة خلق وإبداع وتجويد وتسامٍ.
وحدة الاتجاه ووحدة النظر:
النقطة الأولى التي ركّز عليها الخطاب هي الخروج من الفوضى إلى الاتجاه الواضح، إلى وحدة الاتجاه التي تعني وحدة النظر إلى الحياة. ففي وحدة النظر وحدة اتجاه. وهذا هو القصد الأساسيّ من عمل الحزب السوري القومي الاجتماعيّ، توحيد اتجاه الأمّة، من خلال توحيد اتجاه الحزب؛ فالحزب هو الأمّة مصغّرة؛ ولا ريب في حقيقة القول إنّ الحزب هو الأمّة وإنّ الأمّة هي الحزب لأنّ الأمّة في حقيقة مفهومها هيئة اجتماعيّة تحقّق فيها الوعي والفهم والوضوح وحصلت النظرة الصريحة إلى الحياة والكون والفنّ. فإذا وجدت هذه الأسس يعني أنّ الأمّة موجودة في حالة كمون. وتصير حقيقة قائمة حين يحصل الوعي للحقائق الأساسيّة التي تكوّن وحدة الاتجاه وخطط الاتجاه التاريخيّ. وهذه الأسس لا وجود لها في أمّتنا إلاّ في الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ. ولأنّ الأمّة نشأت نشوءًا جديدًا مع نشوء الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ كان لنا الحق الطبيعي قول ما قلناه.
المبادئ للشعوب لا الشعوب للمبادئ:
المبدأ لغويًّا هو الأصل والقاعدة والقانون؛ هو معتقَد وقاعدة أخلاقيّة أو عقيدة. هو معيار علميّ تبنى عليه قيم الأعمال. ما يعني بكلّ وضوح أنّ المبدأ أصل وعليه تبنى الفروع والجزئيات، وتبقى الأخلاق ضابطة وناظمة لهذا الأصل وهذه الفروع؛ وإلا فإنّه يصحّ تجريد المبدأ من قيمته اللفظية والمعنويّة والاستعاضة عنها بما يتوافق مع الحالة المستجدّة، التي لا ترقى إلى سموّ معنى المبدأ. فمن المعيب مثلاً أن نقول: مبدأ اللصوص، أو مبدأ الفاسدين أو مبدأ المخربين والإرهابيين. والصحيح القول مسلك أو تصرف هؤلاء أو جموحهم المثلبي. وفي هذا السياق كان تشديد الزعيم على أنّ المبادئ توجد للشعوب، لصالح الشعوب لتطوير حياتها نحو الأفضل وتأمين أفضل الظروف لذلك. ولن توجد الشعوب للمبادئ. من الناحية المنطقيّة الشعب هو الأساس وهو سابق للمبادئ، وبالتالي لا يمكن أن يسبق المبدأ، الذي هو من وضع الإنسان، الإنسانَ نفسه. ومن الناحية الإنسانيّة الاجتماعيّة فإنّ المبادئ هي لخدمة المجتمعات وفي خدمتها، وهنا تكمن أهميتها. وعليه فإنّ المبدأ لكي يكون صحيحًا “يجب أن يكون لخدمة حياة الأمّة” ومرتكزًا على قاعدة أنّ مصلحتها فوق كلّ مصلحة، من خلال نظرة واضحة شاملة إلى الحياة والكون والفنّ؛ وإلاّ كان مبدأ فاسدًا، أقلّ ما يقال فيه، أنّه ليس مبدأ، ويجب أن يُرمى جانبًا. فإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، أفلا يظنّ البعض أن هنالك تضاربًا في اعتماد هذا القول، مع تأكيد الزعيم على عقد: “القلوب والقبضات على الوقوف معًا والسقوط معًا في سبيل تحقيق المطلب الأعلى المعلَن في مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي وفي غايته”. فكيف نبذل أنفسنا من أجل المبادئ في حين أنّ المبادئ وجدت لأجلنا؟
أن نبذل أنفسنا في سبيل المبادئ المنبثقة من حقيقة وجودنا وتخدم هذا الوجود، يعني أننا نضحّي كأفراد، حتى بالأغلى، والأغلى هو الدماء، في سبيل هذه المبادئ. يعني أننا نضحّي بأنفسنا أفرادًا من أجل الأمّة ورقيّ حياتها. فالمبادئ هنا هي التعبير عن حياة الأمّة، ولا فصل في هذا السياق بين الأمّة والمبادئ. أمّا إذا كانت المبادئ في وادٍ وحياة الأمّة في وادٍ آخر، بمعنى أن يكون بين المبادئ وحياة الأمّة فجوة أو وهدة عميقة، فطبيعيّ ألاّ تعنيَ لنا شيئًا، وطبيعيّ كذلك ألاّ نضّحيَ من أجلها أو أن نبذل في سبيلها لا النفس ولا ما هو دون النفس؛ حتى ولو كانت في حدّ ذاتها جميلة ورائعة وساحرة؛ فالروعة والجمال والسحر مقياسها الأمّة وحياتها ومصلحتها. إن كانت في هذه الدائرة فمن أجلها نبذل الغالي والرخيص؛ وإلاّ فهي من خارجها ولخارجها. وبموازاة قول سعادة قولٌ لسعادة الأب الدكتور خليل: “ليست الحياة وسيلة لتشريف الدين بل الدين وسيلة لتشريف الحياة”. فقيمة المبادئ هي بمقدار ما تؤمّن حياةً فعليّة جيدةً للإنسان، لا بقدر ما هي أخيلة في أذهان بعض المفكّرين.
من أجل المبادئ التي تعني حياة الأمّة كلنا مستعدّون للتضحية، ومن يضحّي بذاته في هذا الإطار يبقى جزءًا من الكلّ يسقط في سبيل الكلّ ولخير الكلّ. وحين يتحقّق هذا الخير يجد الكلّ أنّ هذا يرضي القيم الإنسانيّة العليا التي تفيض بخيرها على مجموع الشعب؛ ولا ريب أنّ مثل هذا الناتج الخيريّ يعود إلى تقديم الأمّة على الذات وليس العكس. فالأمّة هي الأساس وهي الأولى، والأفراد – إمكانياتها هم في خدمة أمّتهم.
فالتناقض المفترَض الذي قد يتوهّمه البعض لا أثر له في قول سعادة بأننا “عقدنا القلوب والقبضات على الوقوف معًا والسقوط معًا في سبيل تحقيق المطلب الأعلى المعلَن في مبادئ الحزب…” وقوله بأن الشعوب للمبادئ وليست المبادئ للشعوب. بل الأحرى أنهما متكاملان الواحد منهما يكمّل الآخر. ومن الصعب أن يفقه حقيقة هذا الأمر إلاّ الذين يؤمنون بوحدة الحياة على أرضهم الواحدة، وبأنّ عقيدتهم هي التعبير الحقيقيّ عن هذه الوحدة، وبأن كل ما يملكون هو من الأمّة ولها.
الحزب فكرة وحركة:
إنّ العقليّة التي كانت سائدة فيما يتعلّق بتأليف الأحزاب تتمحور حول منافع شخصيّة حينًا وفئويّة حينًا آخر؛ وإنّ الأحزاب هي جمعيّات أو حلقات، أقصى همّها أن تؤمّن بعض الخدمات البسيطة أو تهتمّ بما يخدم أعضاء الجمعيّة أيًّا كان العدد قليلاً أو كثيرًا. علمًا أنّ هذا المفهوم الخاطئ لم تُطوَ صفحاته لا في دفتر المفاهيم العامّة الشعبيّة، ولا في الدفاتر القانونيّة،؛ فالذي يعود إلى التراخيص التي أعطيت وتعطى للأحزاب يجدُ أنّ هذه التراخيص تسمّي الحزب جمعيّة.
وفي المرحلة السريّة ما بين 1932 و 1935، كان بعض الأعضاء في الحزب، الذين لم يقفوا على المبدأ الحيويّ الذي ينطوي عليه الحزب السوري القومي الاجتماعي، يعتقدون مثلما يعتقد الآخرون، وحتى بعد أن انكشف أمر الحزب في الخامس عشر من تشرين الثاني عام 1935، لم يسلم الحزب من مثل هذا التوصيف من بعض الرفقاء السطحيين المهووسين بالوصوليّة، ومن آخرين من المواطنين الذين نشأوا وتربّوا على الدارج من الأخطاء.
بيد أنّ الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ يتميّز عن سائر الأحزاب، على اختلافها، بكونه يتجاوز مفهوم الجمعيّة أو الحلقة. فالجمعيّة جماعة من الأفراد ينتظمون في عمل جماعيّ مشترك حسب قانون داخليّ لهدفٍ ومقصدٍ معيّنين.
والحلقة عبارة عن مجموعة صغيرة، غالبًا ما تكون من الطلاب تنصرف إلى دراسة موضوع أو بحث تحت إشراف أستاذ معيّن.
انطلاقًا من هذين المدلولين لكلمتي جمعيّة وحلقة، هل يمكننا مجاراة القائلين بأنّ الحزب هو جمعيّة أو حلقة كسائر الأحزاب؟؟؟
إنّ الإصرار على اعتبار الحزب السوري القومي الاجتماعيّ جمعيّة أو حلقة يدلّ على واحدٍ من أمرين: إمّا أنّه يدلّ على قصور في الفهم وإمّا على تشويه مقصودٍ لصورة الحزب. والتشويه المقصود له أسبابه وخلفيّاته وقد تناولنا بعضها في شرح المحاضرة الأولى. فالحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ، الذي أحدث انقلابًا حياتيًا شاملاً في السياسة والاقتصاد والفكر والاجتماع والأدب، تقصر الأحزاب الأخرى عن مجاراته، لم يكن ليرقى إلى هذا المستوى المميّز لولا النظرة الجديدة التي جاء بها، النظرة إلى الحياة والكون والفنّ، التي يحاول البعض تجريده منها في الدائرة التشويهيّة المقصودة، أو لأنهم يحجمون عن دراسة هذه النظرة والتعمّق بها. فمرتكز العقيدة القوميّة الاجتماعيّة هو النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن. إذا لم نتمكّن من فهمها يتعرّض مفهومنا القوميّ العقديّ إلى الاهتزاز. وهذه النظرة الجديدة واضحة في مقالة نظرة سعادة إلى الإنسان. الإنسان الكامل هو المجتمع في تعاقب أجياله وفي وحدة حياته على أرض واحدة، والفرد هو بحدّ ذاته وضمن ذلك الحدّ، إمكانيّة إنسانيّة، قدرة إنسانيّة، طاقة إنسانيّة. وفي ذلك، لا مجال للمقارنة بين المشتغلين في السياسة في أمّتنا وبين ما جاء به الحزب السوري القومي الاجتماعيّ. هؤلاء، أحزابًا ومجموعاتٍ وأفرادًا، إذا ما نادوا بوحدة سورية، فإنهم ينادون من أجل نيابة أو من أجل مصلحة شخصيّة خصوصيّة، لا ولن تلامس سموّ القضيّة التي يعمل السوريّون القوميّون الاجتماعيّون على تحقيقها. واللاّفت أن أصحاب الخصوصيّات على اختلاف مشاربهم، ورغم الخصومات القائمة بينهم، يتآزرون ويتعاونون للمحافظة على “مكتسباتهم” التي هي في الأساس من حق الشعب، وقد سُلبت منهم. وبالمقارنة بين النائب القوميّ الاجتماعيّ مثلاً، والنائب المنتمي إلى السياسة الخصوصيّة، نلاحظ أنّ أعلى درجة في مسألة التمثيل السياسيّ عند السياسيين التقليديين، حين يقدّم النائب خدمةً للمنطقة، أو يقوم بتأمين منفعة لأشخاص من هذه المنطقة، أو لمن له بهم صلات شخصية تصبّ كلّها في مصلحته الخصوصيّة. فالشأن العام في مقياس هؤلاء التقليديين هو في خدمة المصلحة الفرديّة. إنّ هذه الدرجة العالية التي يفتخر بها هذا السياسيّ هي بالنسبة لنا عالية في حقارتها قياسًا بما نرمي إليه نحن السوريين القوميين الاجتماعيين؛ أو ليست حقارةً نافرة أن تُسلب حقوق الشعب، ويمنّن السالبُ الشعبَ بإعادة جزء يسير مخجل من حقّه؟ إنها سرقة موصوفة يحاسب عليها القانون الراقي، وفي أبسط الحالات هي تجافي المنطق العقليّ والأخلاق.
وبالمقابل، فإنّ النائب الحزبي الذي فاز بقوّة وقدرة الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ، لن يكون همّه، لا الأمور الشخصيّة، ولا محدوديّة المناطق، بل همّه الأوحد المصالح القوميّة العامّة، والمصالح الأساسيّة التي يتوقّف عليها مصير الأمّة وارتقاء حياتها إضافة إلى سلامة حياة هذه الأمّة ووحدة أرضها. بمعنى أننا نتطلّع إلى الكليّات وليس إلى الجزئيات. ما يعنينا هو جوهر الحياة السوريّة، هو سموّها وعظمتها، والاتّجاه بها نحو الأجمل والأكمل والأفضل. من هنا كان قول سعادة في الخطاب الأساسيّ المنهاجيّ الأوّل: “هذا هو الحزب القوميّ الاجتماعيّ للذين وحّدوا إيمانهم وعقائدهم فيه، هذا هو الحزب القوميّ الاجتماعيّ للذين وحّدوا قوّتهم فيه، هذا هو الحزب القومي الاجتماعي للأمّة السوريّة”.
الحزب هو الأمّة مصغّرة:
الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ هو التعبير الصادق والوافي عن حقيقة الأمّة السوريّة، فهو بالتالي الأمّة السوريّة مصغّرة، لا بل يمكننا القول إنّ الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ المستقلّ فكرًا وعقيدةً وممارسةً وسياسةً هو دولة الأمّة السوريّة المستقلّة، وشعور السوريين القوميين الاجتماعيين هو في دائرة هذه الحقيقة.
وبدهيٌّ أنّ الذين لم يرتقوا إلى مستوى هذه الحقيقة الشاملة، يعجزون عن الارتقاء إلى هذا المستوى من هذه القناعة ومن هذا الشعور.
إذا كان الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ دولة الشعب السوريّ المستقلّة، وهو كذلك، على مستوى القناعة القوميّة الاجتماعيّة الواقعيّة على الأقلّ، إذ هو بمجرّد نشأته المنبثقة من واقع الشعب السوريّ، ويمثّل إرادة الأمّة السوريّة، هو فعلاً دولة الشعب السوريّ المستقلّة استقلالاً صحيحًا وسليمًا، لا لبس فيه، ولا أيّ شكل من أشكال الغموض. وهذا الإعلان، وإن كان الحقيقة بعينها، فإنّ الإفصاح عنه ليس من باب الافتخار، بل من أجل الكشف عمّا نؤمن به عن قناعة راسخة نابعة من صلب الحقيقة نفسها وجوهرها.
وفي هذا السياق نشير إلى إنّ الحكومات السوريّة في مجمل الكيانات السوريّة، والتي تستمدّ صلاحياتها من سلطات الانتداب الأجنبيّ، وتخضع له، لا يمكن، ولا بأيّ شكلٍ من الأشكال، أن تعبّر عن رؤى الشعب السوريّ وتطلعاته؛ بل هي في الواقع صوت المنتدِب، ولا تمثّل إلاّ إرادته لا من قريب ولا من بعيد.
وانطلاقًا من هذا اليقين العقليّ، ومن هذا التوصيف الواقعي للحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، يمكننا التأكيد على تنزيه الحزب من كلّ تأثيرات العوامل الخارجيّة ومن سطوة السيادة الأجنبيّة؛ من حقيقة القول: “إننا قد حرّرنا أنفسنا ضمن الحزب من السيادة الأجنبية والعوامل الخارجيّة”.
ولكن هل هذا يعني نهاية المطاف؟؟ وهل مسؤوليتنا تنحصر داخل الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، أم أنها تمتدّ إلى كلّ الوطن وإلى كلّ الشعب؟
نحن حرّرنا أنفسنا ضمن الحزب من كلّ العوامل الخارجيّة المؤثّرة سلبًا على حياتنا، ومن كل المفروضات التي تتناقض طبيعيًّا مع واقع وجودنا، ولكن بقي علينا، ونحن في خضمّ الصراع من أجل مصلحة أمّتنا، أن ننقذ الأمّة بكاملها، وأن نحرّر الوطن السوريّ، من كلّ هذه المؤثّرات وهذه المفروضات.
الصعوبات الداخليّة والصعوبات الخارجيّة:
بيد أنّ الأمر ليس بالسهولة التي قد يتصورها البعض، وليس بالاستحالة التي يطلقها العاجزون حينًا، والمعجِّزون حينًا آخر. إنّ العمل الذي نقوم به، خطيرٌ تعترضه صعوباتٌ من الداخل السوريّ ومن الخارج على مختلف مشاربه. وعلينا أن نتغلّب على هذه الصعوبات جميعًا. فمن أين نبتدئ؟ أمن الصعوبات الخارجيّة أم من الصعوبات الداخلية؟ أم نواجههما معًا؟
يؤكّد سعادة على ضرورة البدء بمواجهة الصعوبات الداخليّة والتغلّب عليها، ومن ثمّ الانتقال إلى مواجهة الخارج بكلّ تشعّباته. “بالتغلّب على الصعوبات الداخليّة هو هدف من الأهداف الرئيسيّة التي يجب أن نبلغها أولاً ثم نتقدّم إلى التغلّب على الصعوبات الخارجيّة”. وهل يعقل أن نواجه الإرادات الأجنبيّة بعقليّات ومقاصد مبعثرة متنافرة متقاتلة؟؟ يصعب، لا بل يستحيل مواجهة الخارج بنجاحٍ لمقاصدنا إلاّ بعد أن نجعل الأمّة وحدة حياة ووحدة مقاصد ووحدة إرادة ووحدة مصير.
بين التقاليد والعادات:
التقاليد استنادًا إلى ما جاء في كتاب “نشوء الأمم”، ليست عادةً متوارَثة يقلِّد فيها الخلف السلف على القاعدة اللغويّة الصرف، بل هي تتجاوز الشكليّ والسطحيّ، إلى ما له مساس “بالاقتناعات العميقة في نفس الإنسان”. وفي هذا السياق فإنّ نظام الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ يهدف إلى صهر التقاليد المنافية لوحدة الأمّة، أي تحويل التقاليد التي تتعارض مع وحدة الحياة إلى تقاليد تنسجم مع حقيقة هذه الوحدة؛ إذ لا يجوز أن تنتشر في الأمّة الواحدة تقاليد متنافرة؛ ففي وحدة الحياة وحدة تقاليد.
فالتقاليد المنبثقة عن مبادئ لا تتوافق مع طبيعة حياة الأمّة، ولا تهدف إلى ارتقاء الأمّة، هي قاصرة عن تأمين أيّ عنصرٍ من عناصر الارتقاء، وبالتالي يجب أن نصهر هذه التقاليد لتكون في مصلحة الحياة، ومن الخطأ اعتبار الحياة في خدمة هذه التقاليد؛ تمامًا كما المبادئ هي للحياة وجودتها، وليست الحياة لا للمبادئ ولا للتقاليد. “نحن نقول بتعطيل تقاليد تجرّ حياة المجتمع وتمنعها من التطوّر والارتقاء نحو أفضل المثل العليا وأجملها، وإشادة تقاليد جديدة تحلّ محلّها وتكون مسهّلة تطوّر الحياة وارتقاءها”. “ونحن في الحزب قد أنشأنا وكوّنّا تقاليد جديدة تظهر قيمة نظرتنا واتجاهنا وفاعليتنا في الحياة؛ وإننا حريصون على أن تستمرّ هذه التقاليد الجديدة التي تؤمّن حياة جديدة فيها العزّ والكرامة والخير والمجد”.
مرض النزعة الفرديّة:
ليست التقاليد المنافية لوحدة الحياة هي المشكلة الداخليّة الوحيدة، بل هنالك النزعة الفرديّة التي تشكّل عاملاّ معرقلاً في مسيرة حياتنا الاجتماعيّة. وقد أشرنا إلى هذا الأمر في شرح المحاضرة الأولى، حيث غرق بعض المنضوين تحت راية الحزب في فردياتهم وأنانياتهم فانحرفوا وأساؤوا إلى أنفسهم وأضاعوا فرصة العمل من أجل مصلحة حياة أمّتهم. وهؤلاء كان منهم من تحمّل مسؤولياتٍ مركزيّةً ولكنه غرق في فوضى المفاهيم الجزئيّة التي استوردها من الخارج، أعني فايز صايغ، الذي حاول أن ينشر الشخصيّة الفرديّة الأنانيّة الفوضويّة لصاحبها نقولا برديايف، في صفوف القوميين؛ ولا شك أنه رأى فيها ما يتوافق مع مرض الفرديّة الأنانيّة التي أُصيب بها.
إنها النزعة الفرديّة التي تتعارض مع حقيقة نفسيّة الأمّة وشخصيتها وارتقائها. وهي من أعظم الأمراض التي تواجهها الأمّة؛ وهذه النزعة هي من أعظم الصعوبات الداخليّة التي يجب التغلّب عليها من أجل تعبيد الطريق أمام الانتقال إلى مواجهة الصعوبات الخارجيّة.
فالفرديّة تشتيتٌ وتفسيخٌ وإضعافٌ لقدرة الأمّة، ومنافيةٌ لوحدتها وإرادتها. معها تمسي المصلحة الواحدة مصالح، والحياة الواحدة حيواتٍ، والإرادة إراداتٍ، والنظرة الواحدة نظرات؛ ومتى تغلّبنا عليها يمكننا أن نعبر إلى سلوك طريق النجاح. فـ”النجاح الأخير يتوقّف فعلاً على إدراكنا قيمة هذه الحقيقة، وعلى تطبيق رموز الحزب الأربعة التي تربطنا ربطًا لا يحلّ وهي: الحريّة الواجب النظام والقوّة”.
وفي دائرة الجدل العقيم، قد يحاول البعض استغلال قول الزعيم في مقدِّمة كتاب “نشوء الأمم” لغير المرتكز الأساس الذي أراده لتبرير الجنوح الفرديّ الذي يسيطر عليه: “لقد كان ظهور شخصيّة الفرد حادثًا عظيمًا في ارتقاء النفسيّة البشريّة وتطوّر المجتمع الإنسانيّ. أمّا ظهور شخصيّة الجماعة فأعظم حوادث التطوّر البشريّ شأنًا وأبعدها نتيجة وأكثرها دقّةً ولطافةً وأشدّها تعقّدًا، إذ إنّ هذه الشخصيّة مركّب اجتماعيّ – اقتصاديّ – نفسانيّ يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسيّة متّحده الاجتماعيّ وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه”.
فإذا كان ظهور الشخصيّة الفرديّة حدثٌ عظيم، فظهور شخصيّة الجماعة هو أعظم حوادث التطوّر البشريّ. فبين العظيم والأعظم فرق كبير في المعنى يدركه العالمون بدقائق اللغة؛ وهذا يعود إلى أن البحث في الماضي كان يتركّز على منشأ الكون وماهيّته فانتقل إلى البحث في الإنسان، الإنسان الفرد، ماهيته وطبيعته. من هنا كان اعتبار ظهور شخصيّة الفرد حدثًا عظيمًا، لكنّ الحقيقة الكبرى هي الأعظم، حقيقة المتّحد الاجتماعيّ الأتم- المجتمع.
فمن غير المنطقيّ، وغير المقبول، أن نحرّف المضامين الواضحة إرضاءً لنزوات الفرديّة والأنانيّة البغيضة؛ فالفرد في حقيقة الوجود إمكانيّة بشريّة فيها من عظمة الحياة ما يسهم في تجويد الحياة إن فعلت فعلها الصحيح، وإلاّ فإنها تموت وتموت معها السوءات التي لا يمكن أن تصم المجتمع المنزّه عن كلّ سوءة.
من هنا أكّد سعادة على مهاجمة النظرة الفرديّة، ومحاربة “الفوضويّة والفرديّة الغارقة في فرديّتها، الخارجة على المجتمع ووحدته ومصيره”. إنّ النزعة الفرديّة هي مظهر من مظاهر الانحلال والفوضى، وهي مصاحبة لعدم الشعور بالمسؤوليّة. فمحاربتها واجبٌ، لكي يتسنّى لنا القضاء على هذا المرض الداخلي الخطير للانتقال إلى معالجة الصعوبات الخارجيّة.
حتميّة التغيير وشروطه:
إنّ التغلّب على الصعوبات الداخليّة والخارجيّة يعني بدون أيّ لبسٍ أننا نخوض معركة التغيير من أجل جودة حياة الأمّة؛ وعمليّة التغيير لا تتمّ بطريقة سهلة وخالية من العوائق والصعوبات خاصّة في خضمّ الاستهداف الذي تعرّضت وتتعرّض له أمّتنا. ولا شكّ أنّ كلّ متتبّعٍ يرى الحوادث التي حدثت وتحدث ضمن عمليّة التغيير؛ فلا يمكن أن يغيّر مَن يصرّ على الاحتفاظ بكلّ سلاسل الماضي التي تكبّله. ومن العجب أنّ أفرادًا وجماعات تعلن تأييدها للحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ وتطلب أن تُعطى الحريّة لهذا الحزب الذي يؤمّن الحرّيّة.لكأنّ الحرّيّة شأنٌ خارجيّ يُعطى لهذا أو ذاك في إطار المقياس الفرديّ السطحي الذي لا يمكن أن يلامس مفهوم الحريّة في النظرة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة.
فالحريّة في المفهوم الفردي السطحيّ تعني الاحتفاظ بالسلاسل والقيود التي تكبّل الأفراد، كثر عددهم أو قلّ؛ بينما الحريّة في عقيدتنا وحياتنا، نحن السوريين القوميين الاجتماعيين، تعني تقطيع القيود والسلاسل وتكسيرها والتخلّص منها غير آسفين عليها، وغير شاعرين بأيّ أسًى أو حزنٍ على ذلك.
وعليه فإنّ عمليّة التغيير كانت عمليّة إيمانيّة لا غبار عليها، وقد بدا ذلك واضحًا من خلال استعداد السوريين القوميين الاجتماعيين وعزمهم على تحقيق انتصار المبادئ كلٌّ في نفسه أوّلاً مسقِطًا كلّ معوّقات “السير في الحياة الجديدة، نحو مطالب الحياة الجديدة”.
لكنّ هذه العمليّة لم تمرّ دون حوادث من داخل الحزب ومن خارجه، الأمر الذي استشرفه الزعيم، كما استشرف أنّ القوميّة الاجتماعيّة ستنتصر في الأخير. وهذا الانتصار مردّه إلى حقيقة النهضة من جهة، واستعداد القوميين وعزمهم على تحقيق انتصار مبادئهم. وفي هذا الاستعداد إصرار على التغلّب على كلّ ما يقف في طريق الحياة الجديدة للخروج من الحالة الفاسدة إلى “حالة صحيحة عنوانها النظام والقوّة”.
النظام بين المفهوم النهضوي والمفهوم التقليدي:
النظام النهضوي:
– النظام نظام الفكر والنهج.
– نظام الأشكال التي تحقّق الفكر والنهج.
– النظام شيء عميق جدًّا في الحياة.
– هو الذي لا بدّ منه لتكييف حياتنا القوميّة الجديدة.
– هو الذي لا بدّ منه لصون نهضتنا العجيبة التي ستغيّر وجه التاريخ في الشرق الأدنى.
النظام التقليديّ:
– ترتيبات شكليّة خارجيّة.
– مجرّد تنظيم دوائر وصفوف.
– النظام البرلمانيّ التقليديّ لا سلطة له على التكييف.
– في هذا النظام قواعد تراكميّة، ونحن لا نجمع أعضاء كيفما اتّفق.
– التراكم من قواعد الجماد لا من قواعد الحياة.
– الجماد يبقى كما هو، من الخارج يتراكم.
– المكانة الاجتماعية تمثّل قوّة تراكميّة.
الحالة الصحيحة هي في حقيقة النظام النهضويّ وفي القوّة التي تنمو من الداخل؛ فالقوميّون الاجتماعيّون يفعلون من داخل الحياة، وينمون من الداخل نحو الشباب والرجولة؛ هم قوّة تنمو وتتحرّك وتفعل وتنشِئ.
والقوّة التي يعنيها سعادة هي “قوّة السواعد الحرّة، قوة القلوب، قوّة الشعور، قوّة الإحساس المرهف، قوّة الأدمغة. قوّة التفكير والتوليد والإبداع والتصوّر”. هي القوّة النفسيّة- الماديّة التي تشكّل الضمانة لصيانة الأمّة من كلّ الأخطار المحدقة بها، والتي قد تحدق بها. وهي أحد رموز الزوبعة التي بتكاملها وتفاعلها تؤمّن كلّ المتطلبات والمقوّمات التي تضمن مصلحة الأمّة العليا. وهي التي ترسّخ فينا الإيمان العميق بانتصار مبادئنا، وقدرتنا على التغلّب على جميع الصعوبات الداخليّة أوّلاً والخارجيّة تاليًا. وممّا لا شك فيه أنّ ذلك يتطلّب وقتًا، كون الوقت شرطًا أساسيًّا لكلّ عملٍ خطير. فلا ينتظرنّ أحدٌ أنّ التغيير الحتميّ الذي نؤمن إيمانًا عقلانيًا مطلقًا بحصوله سيتمّ بين ليلة وضحاها، لأنّ القضيّة هي قضيّة حياة أمّة بأسرها، لكنّ هذه المساحة الزمنيّة وإن طالت، لا يمكن أن تجعل القلق يتسرّب إلى نفوسنا؛ فالقلق ناتج عدم ثقة وعدم إيمان، ونحن أبناء العقيدة المحيية التي أسقطت كل عوامل القلق والخوف والشك والاضطراب ورسّخت عوامل الثقة والإيمان.
فحين تبدأ مبادئ الحياة، المثبتة في عقيدتنا، فعلها الإيقاظيّ، وابتدأت تنشئ وتوجّه، حينها تصبح المسألة مسألة وقت، وحينها تتهاوى الصعوبات الخارجية أمام صلابة إيمان أبناء الحياة وإرادتهم المتمركزة في نظامنا القوميّ الاجتماعيّ الذي يضمن وحدة الأمّة المتينة التي نضحّي في سبيلها بكلّ ما يناسب مستوى هذه التضحية، وهو الذي يكفل لأمّتنا المستقبل الذي يليق بها، ويخرجها من النفق المظلم الذي سُجنت فيه لقرون.
الدعاوات الأجنبيّة وتداعياتها:
لا يمكن لأيّ لأجنبيّ طامع أن يقف مكتوف الأيدي أمام معاينته اتجاه الحياة اتجاهًا تصاعديًّا في أمّة يصوب أطماعه عليها؛ وبالتالي فهو لا ينفك يستعين بكل الأساليب والوسائل من أجل زعزعة حالة النموّ والازدهار والرقيّ في الأمّة المعنيّة، لكي يبقى سبيل التسلّط عليها متاحًا.
من هنا كانت الدعاوات على أشدّها يوم شعر الأجنبيّ بحالة نهضويّة لافتة لا بدّ وأن تعرقل مخططاته أو تحدّ منها إلى أن تزيلها كليًّا. وفي هذا السياق أدرك سعادة، قبل أن ينكشف أمر الحزب بحوالي ستة أشهر، أن هذه الدعاوات قائمة على قدمٍ وساق، من قِبَل الألمان ومن قِبَل الإيطاليين. وأعلن للقوميين الاجتماعيين أنه يشعر بدعاوة أيطاليّة وبأخرى ألمانيّة ومن دولٍ أخرى كذلك. وقد حذّرهم من الوقوع في فخّ هذه الدعاوات وحثّهم على ضرورة محاربتها لأنها تشكّل خطرًا على مسيرة حياتنا.
وأوضح سعادة أنّ الأمم قد تتشابه في الأنظمة وفي الأساليب العسكريّة وفي التشكيلات؛ فإذا كان هنالك علاقة في الشكليّات مع ألمانية أو مع إيطالية، فهذا لا يعني أنّ فكرتنا القوميّة قد استُمدَّت منهما، فالفكرة القومية لا علاقة لها، لا من قريب ولا من بعيد، بتلك الأفكار الأجنبية؛ كما أنّ التشابه، وإن على مستوى الجيوش، لا يعني انقياد أمّة لأمّة أخرى، أو خضوع هذه الأمّة لتلك؛ وإذا ما قام تشابه بين الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ وأنظمة دول أخرى، ألمانيّة كانت أو أيطاليّة أو سواهما، فما ذلك إلاّ لأنّ بعض الأوضاع المتشابهة، تتطلّب بعض الأشكال المتشابهة. ولا يدخل هذا في باب التقليد الذي يحاول البعض أن يلصقه بالحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ بقصد التشويه والتشويش. علمًا أنّ مثل هذا الأسلوب قد يؤثّر على أناسٍ لم يتسنَّ لهم الاطلاع على حقيقة الفكرة القوميّة الاجتماعيّة، أو هم في موقعِ محاربة الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ وفكرته، لكنه متى وصل إلى السوريين القوميين الاجتماعيين، وجد سدًّا منيعًا يستحيل خرقه. لأنّ القوميين ارتبطوا ارتباطًا واعيًا للسير على سياسة واحدة في نظامٍ قائمٍ على اليقين والإيمان المطلقين؛ حيث لا شكّ ولا جبنٌ ولا خوفٌ ولا فوضى. فاليقين يولّد القوّة والإقدام، والشك يكوّن الجبن والتردّد والفوضى. مع الثقة والإيمان قضاء على التردّد والفوضى والبلبلة؛ وبدونهما لا يمكن أن نتقدّم بل نتراجع. فالتقدّم يمكن أن يكون من الشكّ إلى الإيمان، ولا يمكن التقدّم من الإيمان إلى الشك بل إنّ ذلك تراجع إلى الوراء.
من اليقين إلى الانتصار:
وحين نثق بحقيقة قضيتنا ونؤمن بها إيمانًا راسخًا مطلقًا لا يشوبه شكّ، عندها يعبرُ الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ إلى الحالة النهضويّة الفعليّة التي تنموٍّ باطّراد، يومًا بعد يوم، ويصير الحزب تلك الصفوف البديعة من الرجال الذين تعمر نفوسهم بالإيمان والثقة بالغد، يتمنطقون “بمناطق سوداء على لباسٍ رصاصيّ، تلمع فوق رؤوسهم حراب مسنونة يمشون وراء رايات الزوبعة الحمراء يحملها جبابرة من الجيش، فتزحف غابات الأسنّة صفوفًا بديعة النظام. فتكون إرادة للأمّة السوريّة لا تردّ لأنّ هذا هو القضاء والقدر”.