الضلال البعيد -من كتاب الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية
الضلال البعيد (تابع).
“… المهووس بالخلود مستعجل فأفسحوا له المجال. لا تظنّوا أنَّ لجميع حدود المنطق قدرة على كبح جماحه. إنّه أرعن، ملحٌّ، لاجٌّ، يقتحم سياجات العقل، ويقفز من النوافذ إلى المجامع، ويدخل بلا استئذان، إنّه هاجٍ سفيه، من يقدر أن يقف أمام شتمه وسبابه؟
ذهب الحديث عن نوع الموضوع وتحديده، وجاء الموضوع نفسه. ولا تسل كيف حدثت هذه العجبية ألم يأتِك أنّ من البيان لسحرًا؟ هكذا يكون السحر. فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر فقل أيّها الإنسان أين المفرّ؟
قال صاحب الحارضة الهجائية من فيض «علمه»: «فهو (الإسلام) لم يفصل الإنسان عن نفسه حتّى تتقطع بينهما الأسباب، ولم يباعد بين الجسد والروح في هذه الحياة، وهما وحدة لا تتجزّأ إلاّ بالموت، ولم ينس العقل الذي يجمِّل ويكمِّل البشر السوي، بل لقد قدّمه النبيُّ على شريعته نفسها بقوله: الشرع عقلٌ من خارج، والعقل شرعٌ من داخل، وقوله، دين المرء عقله، فمن لا عقل له لا دين له، وقوله لا يتمّ دين المرء حتّى يتمّ عقله، فشرَّف الدماغ البشري بهذه الآيات البيِّنات أعظم تشريف…
«ولقد أشاد بذكر العلم وفضل العلماء، وقال في هذا المعنى من الحكم ما يكاد يجمع كتابًا، ونحن لو بحثنا في الإنجيل لما وجدنا آية واحدة تذكر العلم بخير أو بشرّ».
هذا هو الموضوع، وهنا بدء تفضيل المحمّدية على المسيحية الذي قلنا إنّه كفرٌ بالإسلام الذي يتظاهر رشيد الخوري بأنّه آمنَ به. وبما أنّ الخوري قد خلط بين الدين والطريقة العلمانية في الكلام الذي شاء أن يسمِّيه بحثًا فلا بدّ من اقتفاء أثره في اعوجاجه والتوائه. إنّه جعل هذا الكلام «بحثًا اجتماعيًا فعلًا» فلنوافقه من أجل البحث.
جعل الخوري أوّل تفضيل للمحمّدية على المسيحية ما ورد في الحديث النبويِّ من الأقوال عن العقل واتّصالهِ بالدين، وإشادةِ النبي بذكر العلم وفضل العلماء. فارتكب عدّة جرائم ضدَّ الدين الإسلامي في المحمّدية وفي المسيحية معًا، وضدَّ العقل الذي عرف محمّد قدره فوصفه بما عرف. وأوّلُ جريمة ضدَّ الدين الإسلامي المحمّدي أنّه قدّم الحديث الشريف على القرآن، وجعل هذا تابعًا لذاك، ووضع كلام الرسول قبل كلام الله في تبيان جوهر الإسلام المحمّدي. والجريمة الثانية الكبرى هي أنّه جعل الحديث النبويَّ حدًّا للآيات المنزَلة وحكمًا عليها. فإذا كان محمّد قد قدّم العقل على الشريعة المنزلة، كما يقول الخوري، فالشريعة قد أصبحت منقوضة، وأصبح العمل بها على جهة التسليم بأحكام الله وحدوده باطلًا. وإذا أصبح العقل هو المقدَّم على الشريعة المنزلة فأيّة قيمة إلهية بقيت لتلك الشريعة؟. وأوّل جريمة ضدّ المذهبين المحمّدي والمسيحي معًا هو مقابلته الإنجيل على الحديث النبويِّ، والإنجيل كلام إلهيّ في عُرف الإسلام في المذهبين المسيحي والمحمّدي. فمن حيث المسيح هو عند المسيحيين ابن الله وروحه كان كلامه كلام الله. وفي القرآن إنكار لكون المسيح هو الله أو ابنه من صاحبة ومشاركًا له في الحكم يوم الدينونة، ولكن فيه إثبات لكون كلام المسيح كلامًا إلهيًا باعتباره منزلًا عملًا بقوله: {لكنّ الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك الخ} (سورة النساء: 162) وجاء قول الله في سورة مريم: {فأشارت إليه قالوا كيف نكلِّم من كان في المهد صبيًا. قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًا. وجعلني مباركًا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا (21) … والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعثُ حيًا. ذلك عيسى ابن مريم قول الحقّ الذي فيه يمترون} (23 و24) (وفي سورة النساء) {وإنّ من أهل الكتاب إلّا ليؤمننَّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا} (159) (وفي آل عمران) {نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقًا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدًى للناس وأنزل الفرقان الخ} (آل عمران: 3 و4).
كان الصحيح. من حيث البحث، أن يقابل القرآن على الإنجيل مقابلة كلام إلهي لكلام إلهي، فلا يزيّن للمؤمنين أن يتبعوا غروره ونفاقه. بهذا يقضي منطق العقل. ولكنّ الذي اختلَّ منطقه واضطرب شعوره أيعرف الدين أو المنطق؟
بقي أن نعلّق على قول الخوري المتقدّم تعليقًا أوسع في ما يختصّ بما جعله أساس المفاضلة. إنّ وصف محمّد الشرع بأنّه عقلٌ من خارج، ووصفه العقل بأنّه شرعٌ من داخل، إنّما هو شيء من التعليل الشعريّ الذي لا يعيّن تعيينًا جازمًا مركز العقل البشري من الشرع. وقوله: لا يتمّ دين المرء حتّى يتمّ عقله، ومن لا عقل له، لا دين له، فهو حثّ على عدم الجهل بالدين، ولا يشتمل على أيّة نظرة فلسفية شاملة في العقل. ولو اشتمل على هذه النظرة الشاملة وجعلها محمّد قاعدة دعوته لكان اكتفى بأن يكون فيلسوفًا يذهب مذهب الفلاسفة المحكّمين العقل في كلّ الظواهر، الجاعلينه جوهر الطبيعة وميزة الإنسان، فيكون، في هذا الباب، تلميذًا من تلامذة المدرسة السورية الفلسفية التي وضع قواعدها الفلسفية الفيلسوف السوريّ العظيم زينون، وهو قبل محمّد وقبل المسيح بزمان. ومن هذا الوجه ما كان يكون لمحمّد فضل. إذ هو لم يزد مقدار ذرّة على مذهب الرواقيين في الفكر. إنّ ميزة محمّد هي في أنّه نبيّ لا في أنّه فيلسوف. وميزة المحمّدية هي في القرآن والشريعة الواردة فيه، لا في الحديث الذي هو من مجمّلات النبي وحسن نظره وسلامة فطرته”.
أنطون سعاده، “الإسلام في رسالتيه المسيحيّة والمحمّديّة” “الركن للطباعة والنشر” الطبعة الخامسة، 1995، بيروت، (يتبع)