الفصل السابع – الإثم الكنعاني: تحديد الأمّة
الفصل السابع – الإثم الكنعاني: تحديد الأمّة
إذا مثّل الدّين وحدة العقيدة في شعب كان من العوامل على تقوية التّجانس الدّاخليّ الرّوحيّ فيه. وكلّما كان الشّعب متأخّراً في الارتقاء الفكريّ الفلسفيّ كلّما كان الدّين أفعل في السّيطرة على العقليّة.
الحقيقة أنّ الدّين في أصله لا قوميّ ومناف للقوميّة وتكوين الأمّة، لأنّه إنسانيّ ذو صبغة عالميّة. ففي التّعاليم الدّينيّة، المسيحيّ أخو المسيحيّ باعتبار المسيحيّين جماعة واحدة، والمسلم المحمّديّ أخو المسلم المحمّديّ باعتبار المسلمين المحمّديّين جماعة واحدة. ورابطة المسيحيّين دم الفادي وتعاليمه ورابطة المسلمين المحمّديّين القرآن المنزل. وكلّ دين إلهيّ في العالم يزعم أنّه للعالم كلّه لا فرق بين سوريّه وإغريقيّه ويسعى لتوحيد العالم تحت ظلّه.
ولكنّ الدّين، إلهيّاً كان أو غير إلهيّ، لم يشذّ عن قواعد الشّؤون الإنسانيّة ولم يخرج على مقتضيات أنواع الحياة البشريّة وحاجاتها المتباينة أو المتقاربة. فحيثما تضاربت مصلحة المجتمع، الدّولة أو الأمّة، ومصلحة الدّين كانت مصلحة المجتمع هي الفاصل في النّزاع. هكذا أخذت السّور القرآنيّة المدنيّة تتطوّر لتوافق حاجة الجماعة فصارت جهاداً وتشريعاً، بينما كانت السّور المكّيّة فكراً متسامياً إلى [الله] وروحاً متجرّدة من الأصنام والدّنيويّات. وهكذا صارت تعاليم لوتر المصلح وسيلة لتحرّر ألمانيا من ربقة رومة. والكنيسة الأنقليكانيّة (الإنقليزيّة) الّتي أنشئت وأزيلت ثمّ أعيدت لتفي بغرض المجتمع الإنقليزيّ فظلّت في طقوسها كأنّها كاثوليكيّة أو أرثوذكسيّة ولكنّها استقلّت عن هذين المذهبين.
إنّ الدّين واحد ولكنّ الأمم متعدّدة. وفي احتكاك الأمم بالأمم تتمسّك كلّ واحدة بكلّ عقيدة أو بأية عقيدة، سواء أكانت دينيّة أو غير دينيّة، لتحافظ على استقلالها الرّوحيّ فلا تخضع لأمّة أخرى بواسطة السّلطة الرّوحيّة الدّينيّة ولذلك ظلّت إسكتلندة كاثوليكيّة لكي تحتفظ بشخصيّتها القوميّة فلا تذوب في إنقلترا، وما يقال في إسكتلندة يقال في إيرلندا. وهكذا لجأ الفرس إلى الشيعة ليحدثوا انقساماً يتخلّصون فيه من سيطرة سورية الأمويّة وليستعيدوا استقلالهم ونفوذهم الرّوحيّين والماديّين، لتصبح السّيطرة فيهم، وتمسّكت سورية بالسّنة لكي لا تخضع للفرس.
الفصل السابع – الإثم الكنعاني: تحديد الأمّة
الفصل السابع – الإثم الكنعاني: تحديد الأمّة
أمّا الدّين من الوجهة العقليّة فهو نوع من أنواع الفلسفة في تعليل مظاهر الكون وتقدير نهايته ومصير النفّس البشريّة. ومع أنّ جميع الأديان الكبرى تجمع على فكرة أساسيّة واحدة، هي فكرة اللّه وخلود النّفس والعقاب والثّواب فهي تختلف في جزئيّات تتعلّق بالمناقب والأخلاق بالنّسبة إلى البيئة الّتي ينشأ فيها كلّ دين وحاجة الحياة لتلك البيئة. ثمّ تأتي المذاهب والشّيع لتعدّل الدّين من هذه الوجهة ليلائم حاجات ومصالح مجتمع خاصّ أو مجتمعات خاصّة ونحن نعتقد أنّ إيوانوف قصد المذهب حين قال الدّين فجعل المذهب ديناً قائماً بذاته وهو من باب تسمية الجزء بالكلّ أو الفرع بالأصل.
إنّ في المجتمعات الإنسانيّة نزعة إلى إكساب العقائد العامّة صبغات وألواناً وأذواقاً من خصوصيّات شخصيّاتها. فكلّ مجتمع يحبّ أن يرى نفسيّته وشؤونه الخصوصيّة في معتقداته ومذاهبه، أي أن يطبع المذهب العامّ أو المشترك بطابع شخصيّ. فالمجتمع الرّوسيّ، مثلاً، قد أدخل في الأرثوذكسيّة الشيء الكثير من شخصيّته وخصوصيّاته الاجتماعيّة، فالتّرانيم والأجواق الكنسيّة وتقبيل الأقارب والأحباب ثلاثاً، والأعياد ومظاهرها القوميّة، هذه الأشياء الثّانويّة بالنّسبة إلى الاعتقاد باللّه والخلود والمسيح لها الشأن الأوّل في نفسيّة المجتمع وهي هذه الأشياء الّتي لها قيمة قوميّة في حياة المجتمع، أشياء تقليديّة صبغ المجتمع الدّين بها فأصبحت تقاليد دينيّة قوميّة.
أرادت الجامعة الدّينية أن تحول دون نشوء الأمم ولكنّ الأمم عدّلت الدّين ليوافق نزعاتها القوميّة. وبهذا المعنى صار الدّين ويصير عنصراً من عناصر القوميّة. وفي الأمم، الّتي تتعدّد فيها الأديان أو المذاهب تكون القوميّة الدّين الجامع ويعود الدّين إلى صبغته العامّة وعقائده الأساسيّة المتعلّقة بما وراء المادة.
إنّ شرط كون الدّين عنصراً قوميّاً أن لا يتضارب مع وحدة الأمّة ونشوء روحها القوميّة فإذا فقد هذا الشّرط زالت عنه صبغته القوميّة وعادت له طبيعته العامّة.
Tag:الفصل السابع, تحديد الأمّة