فرديّ يسقط فرديّته
في لقاء تلفزيونيّ ضمن برنامج حوار اليوم على شاشة الـ “أو تي في” “otv”، وفي سياق الحلقة (تاريخ 3 آب 2016)، مع المحاوِرة جوزفين ديب ادّعى السيّد جبران عريجي أنّ الرفيق جورج عبد المسيح حاول ممارسة “إطار من الاستحواذ والتفرّد” في الحزب السوري القومي الاجتماعي؛
ادّعاءاتٌ اعتدنا عليها ممّن تشرنقوا في الباطل وغرقوا في التواءاتٍ تركت بثورًا سطحيّة على الكيان الحزبيّ، ولكنّها عجزت عن أن تنال من صحّة بُنيته؛ كون الحزب السوري القومي الاجتماعي هو المعبّر عن حقيقة المجتمع السوري، بكلّ خصائصه النفسيّة والمادّيّة العاصية على كلّ الترّهات التي تفسد صفاءه وعظمته، والتي لا تشوّه ألَقه السوءات الفرديّة، مهما كثر عدد الأفراد، فهذه السوءات تنتهي مع انتهاء الأفراد؛ ربّما تعرقل، ولكنّها أعجز من أن توقف أو تعطّل.
هذه الادّعاءات تتوزّع على مجموعاتٍ؛ منها مخطِّط متجاهل لغايةٍ في “نفس يعقوب”، وأخرى جاهلة تنقلُ ببغائيًّا، ومنها مسايِرة علّها تحافظ على منافعها الفرديّة أو الفئويّة؛ وفي كلّ حال تبقى هذه المجموعات ومثيلاتها خارج دائرة الحقّ والحقيقة، رغم أنّها تجهد للحفاظ على باطلها، لأنّه مادّة استمرارها.
سهلٌ أن نرميَ التهم، خاصّة إذا تأمّن لصاحبها منبرٌ إعلاميٌ يشكّل نوعًا من الحصانة الآنيّة بحيث يبقى في حينه خارج المساءلة والمحاسبة. ولكنّ هذه المساءلة والمحاسبة تبقى في عهدة الملتزمين عقائديًا وأخلاقيًا، وفي عهدة التاريخ الذي لا يرحم، ولا تحميه إطلالة من هنا وتهمٌ من هناك.
كلُّ رميةٍ فكريّةٍ نرميها، يُفترضُ أن ندعّمها ببراهين ووثائق، وإلّا كانت افتراءات وادّعاءات تدين صاحبها في السياق، ولا تصمُ المتّهَم البريء بشيء، اللهمّ إلّا ما تتركه من آثارٍ سلبيّةٍ، تتطلّب وقتًا لإزالتها.
أن يتّهم عريجي جورج عبد المسيح بالتسلّط فأمرٌ يفرضُ على مطلقه مسؤوليّة خلقيّة وفكريّة وتاريخيّة وعقائديّة، لأنّ إطلاق العموميّات بعيدًا عن إثباتاتٍ وشواهد قد تُفسدُ نفسيّاتٍ تجهلُ الحقائق، فيغزو الباطل نفوسًا كان يمكن أن تكون مادّة بناء، فنكون بالتالي دعاة تخريبٍ وتشويشٍ، وعناصر تصدّعٍ وتدمير، في الوقت الذي ندّعي فيه أنّنا نبني ونعلي مداميك البناء، إلّا إذا كنا نعملُ للتخريب والتصدّع والتدمير عن قصد.
وإذا كان التبرير بأنّ المناسبة لا تسمح بالتفصيل، فتبرير مردود، لأنّ كرامات الناس ليست ملكًا لحاقدين أو جاهلين أو متجاهلين، يسترون عوراتهم وانزلاقاتهم المسيئة بادّعاءات منحطّة تنضحُ بما في نفوسهم. فإمّا أن نوفّي الموضوع حقّه أو ندعه ليكون جاهزًا وموثّقًا في حينٍ آخر.
رميُ مثل هذه الهنات والافتراءات والادّعاءات أمام المواطنين، ومن على شاشات التلفزة، لا يشرّف صاحبه، وهو يقفز فوق كلّ دليل، أو يتجاوز الأدلّة، ربّما لأنّها قد تفضحه، وتضعه في قفص الاتّهام، أو في دائرة الحكم المبرَم.
ولمتابعة هفت السيّد عريجي، وفي عودة إلى النصف الأوّل من الخمسينيّات، وبعد استشهاد سعاده، انتقل الرفيق عبد المسيح من “الغار المعلّق” إلى دمشق في ظروفٍ، لو أحاطت بأحدٍ من مروّجي الادّعاءات الفارغة، لحوّلتهم من طواويس إلى خفافيش. في دمشق راح يجهد لجمع الهاربين وحثّهم على العمل كي لا يُهدر دم الفداء هباءً، علمًا أنّهم كانوا يخشون العمل ويتهيّبونه (ضرورة قراءة الجزئين الرابع والخامس “من أيّام قوميّة”)، لكنّ إصرار الرفيق عبد المسيح على متابعة تحمّل المسؤوليّة الأولى التي فوّضها الزعيم له قبل الاستشهاد، جعلهم يستجيبون لدعوته، كلّ من خلفيّة خاصّة، وينطلقون للعمل، رغم المماحكات الفرديّة التي أثّرت سلبًا على العمل الحزبي.
نورد هذا باختصار لكي نؤكّد على دور عبد المسيح في دفع العمل الحزبي إلى الأمام، في الوقت الذي كان كثيرون يراهنون على أنّ الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ قد انتهى.
بعد هذا نسأل: أين كان عبد المسيح متسلّطًا؟ هل في التزامه النظاميّ أمام المجلس الأعلى؟ أم في تحمّل مسؤولياته التنفيذيّة كرئيس حزب، فلا يدَعُ التقصير يخيّم على بعض العمد، فيعمد إلى القيام بالصلاحيّات المنوطة بهم حين يقصّرون، لأنّه المسؤول التنفيذيّ الأوّل، يُسأل حين يقصّرون؟ إذا كان تحمّل المسؤوليّة “تسلّطًّا” فنِعْم هذا التسلّط. لا بل كان يجب أن يكون أكثر “تسلّطًا” تجاه الفئة المخرّبة التي ما زلنا نحصد نتائج مساوئها إلى اليوم.. ولنفترض جدَلًا أنّه كان كذلك، فأين كان المجلس الأعلى من هذا التسلّط، ألا تعطيه الصلاحيّات محاسبة الرئيس؟ فلماذا لم يحاسب إذا ثبت أنّ هنالك مخالفات؟ فإمّا أنّه متواطئ، وإمّا أنّه عاجز، وفي كلا الحالين، هو من يجب أن يحاسَب. فلماذا التركيز على عبد المسيح رئيس الحزب وليس على المجلس الأعلى؟ “إنّ وراء الأكمة ما وراءها”. وإن التصويب على عبد المسيح والعقائديين له أسبابٌ أخرى، منطلقاتها في مكانٍ آخر، حيث رعاة الانحراف.
ونسأل أيضًا: إنّ من كان متسلّطًا هل يقدّم استقالته مرّاتٍ عدّة من أجل تسهيل مسار العمل الحزبي الذي كان يظنّ أمثال عريجي أنّه معرقَل بسبب عبد المسيح؟ هل اطّلع عريجي أو سمع بما قاله عصام المحايري آنذاك، دعوا عبد المسيح في المسؤوليّة، ولنعمل على تشويه سمعته أمام الرفقاء، فنخرجه عن طوره وندفعه إلى الاستقالة؟
أما كان من المفروض أن يعدّد عريجي المحطّات التي كان فيها عبد المسيح متسلّطًا من أجل أن نوضح كلّ نقطةٍ على حدة؟ ألا يدفعنا هذا الافتراء إلى تساؤلٍ مشروع: هل إنّ السيّد جبران عريجي اطّلع على تاريخ الحزب بعمقٍ في تلك الفترة؟ أم أنّه على غرار الغرّ من الشباب المغرَّر بهم، على رغم سنّه المتقدّمة، حين طُلب من أحدهم أن يدرس “المحاضرات العشر”، فانتفض وقال بغضب دعونا من عبد المسيح! لكأنّ “المحاضرات العشر” هي لعبد المسيح، وإن كان هو من دوّنها؛ هذا ما لُقّنه خلال الحملة التي استهدفت عبد المسيح، وما زالت؛ إنّنا لم ولن ننسى أسلوب الانحراف مع كلّ مبتدئٍ في درس العقيدة؛ لقد كانوا يمهّدون لذلك بدفع الدارس إلى أن يحقد على عبد المسيح أوّلًا، وبعدها يعودون للعقيدة، إن عادوا؟
إنّ تهمة “التسلّط” التي لصقها عريجي بعبد المسيح، وهي واحدة من تهمٍ كثيرة أعدّها الانحراف من أجل ضرب العقائديين، وفي مقدّمهم عبد المسيح، تدلّ على عدم اطّلاعٍ معمّق، إن بالنسبة لتاريخ الحزب، أو بالنسبة للعقيدة القوميّة الاجتماعية؛ وما نسمعه منه على شاشات التلفزة، يكشف عن سطحيّة عقائدية واضحة، بعكس انغماسه في السياسة الدارجة حيث يغتبط لها ويسترسل، وبالتالي لا يختلف عن السياسيين الآخرين إلّا من حيث الجنوح نحو هذا الفريق أو ذاك.
إنّ السيّد جبران عريجي، في ادّعاءاته، إنّما يستعين بأخبارٍ سمعها ممّن حملوا الحملة على عبد المسيح، تارةً تحت عنوان “التسلّط” وتارة تحت عنوان أنّه أمر “بقتل المالكي”، وثالثة لأنّه “وضع تفسيرات عقائدية غير صحيحة” ورابعة لأنّه “حرّض الرفقاء على المركز”. والواقع أنّ هذه جميعها تبريرات تخفي وراءها السبب الحقيقيّ؛ والسبب الحقيقيّ أنّه لم يخضع لترغيب الأميركان وترهيبهم، وأنّه لم يخضع للابتزاز المالي من قِبل الداعمين العراقيّين ورعاتهم، الذين شدّدوا على الزاحفين وراء المال والسلطة بضرورة إبعاد “الجناح المتطرّف” عن الحزب، وعلى رأسهم عبد المسيح، لكي يستمرّوا بدعمهم والتعاون معهم؟
إزاء هذا الشذوذ العقائدي والمسلكيّ، طالب عدد كبير من القوميين الاجتماعيين آنذاك بضرورة إبعاد هؤلاء الذين نحروا الحزب والعقيدة من أجل منافعهم، وأعماهم تدفّق الأموال، فخانوا قسمهم وعقيدتهم وحزبهم، وخلّفوا مجموعات “تمجّد” انحرافاتهم، متوهّمين أنّ هذا الباطل سيسود وتختفي كلّ الوقائع الناصعة، ليسلموا من حكم التاريخ القاسي؛ لكنّهم لم يفطنوا إلى أنّ سيف الحقّ القاطع الذي لا يترك للغشّ مجالًا، ولا للكذب أرضيّةً، ولا للانحراف ممرًّا.
فعبد المسيح، بشهادة المعلّم وبشهادة عارفيه الخلّص عن قرب، ومن أجل التزامه العقدي والفكري والنظامي والخلقي، وضع كتفه إلى أكتاف من كان يظنّهم أنّهم أهلُ للثقة، إلّا قلّة، فطعنوه في الظهر، لكنّ إيمانه منعه من التمكّن منه رغم كلّ الأساليب البشعة التي استعملوها ضدّه؛ وهنا نذكّر عريجي وأمثاله من أنّ بعض هؤلاء استعملوا الأساليب نفسها مع الزعيم، فالمنحرف منحرف قبل ومع وبعد سعاده.
إزاء استسلام هؤلاء للباطل، نطمئنهم بأنّ عبد المسيح ورفقاء عبد المسيح هم تلامذة سعاده الذين أقسموا وكانوا مخلصين في قسمهم وسيبقون، وهؤلاء، مسؤولين إداريين أو غير مسؤولين إداريين، يكملون المسيرة الحزبيّة، رغم الصعوبات والعراقيل، وبهم وبأمثالهم ستنتصر الأمّة انسجامًا مع ثقة الزعيم بهم، وتلقّم المدّعين أحجارًا قاتلة.
في 8 أيلول 2016
الرفيق نايف معتوق |
Tag:Classic