فصل الدين عن الدولة من المحاضرة السابعة
… «إن أعظم عقبة في سبيل تحقيق وحدتنا القومية وفلاحنا القوميّ هي تعلق المؤسّسات الدينيّة بالسلطة الزمنيّة وتشبّث المراجع الدينيّة بوجوب كونها مراجع السيادة في الدولة وقبضها على زمام سلطاتها أو بعض سلطاتها، على الأقلّ. والحقيقة أنّ معارك التحرّر البشريّ الكبرى كانت تلك، التي قامت بين مصالح الأمم ومصالح المؤسّسات الدينيّة المتشبّثة بمبدأ الحقّ الإلهيّ والشرع الإلهيّ في حكم الشعوب والقضاء فيها. وهو مبدأ خطر استعبد الشعوب للمؤسّسات الدينيّة استعبادًا أرهقها. ولم تنفرد المؤسسّات الدينية باستعمال مبدأ الحقّ الإلهيّ والإرادة الإلهيّة، بل استعملته الملكيّة المقدّسة أيضًا، التي ادّعت استمداد سلطانها من إرادة الله وتأييد المؤسّسات الدينيّة، لا من الشعب.
«في الدولة التي لا فصل بينها وبين الدين، نجد أنّ الحكم هو بالنيابة عن الله لا عن الشعب، وحيث خفّ نفوذ الدين في الدولة عن هذا الغلوّ نجد السلطات الدينيّة تحاول دائمًا أن تظلّ سلطات مدنيّة ضمن الدولة».
المؤسّسة الدينيّة تعتبر نفسها حاملة رسالة كاملة كلّيّة تحيط بكل متطلّبات ومقتضيات الحياة الإنسانيّة وتنظر في كلّ احتياجات الإنسان الروحيّة والمادّيّة من هذا القبيل تنظر هذه المؤسّسات نفسها كمرجع للجماعات البشريّة وأحوال هذه الجماعات. وبما أنّها تحمل رسالة الدين، وحي الله وشرعة للناس، نجد أنّها الوسيلة المثلى لتوجيه الحياة الإنسانيّة بأجمعها، ومن هنا تنزع إلى أن تكون السلطة العليا المطلقة في كلّ ما يختصّ بالروحيّات والعملياّت أيضًا.
هذه النزعة في المؤسّسات الدينية ظهرت في جميع الأديان على السواء في أطوار الإنسان الأولى قبل أن يتّخذ الدين شكله العصريّ المعروف في الوقت الحاضر.
وحين كان الدين في أوائل عهده شيئًا ممزوجًا بالخرافات والسحر والأوهام نجد الساحر أو العراف أو المشعوذ بطرق سحرية، عاملًا فعّالًا في إحداث التشريع للجماعات التي يعيش فيها الساحر أو العرّاف.
فكثيرا ما كان الساحر يأتي برسالة من سماء الأرواح تفيد أنّ الحياة يجب أن تتّخذ شكل كذا أو كذا وإلّا غضبت الأرواح واقتصّت في قبورها من الناس الذين لا يذعنون لهذا الشرع.
ثمّ بعد أن نشأت الأديان الإلهيّة الكبرى واشتملت على شرع وتوجيه للناس، قويَ هذا المحلّ للسلطة الروحيّة في تكييف حياة الإنسان السياسيّة والاقتصاديّة وفي جميع شؤونه. ولكن كان التطوّر البشريّ يصطدم بالسلطة الروحيّة المعرقلة للشؤون العمليّة، لأنّ حياة الناس كانت تتطوّر وتستمرّ في التطوّر، وكلّ تطوّر كان يجلب حالات جديدة تقتضي فهمًا جديدًا وتقتضي تشريعًا جديدًا”.
(الدليل إلى العقيدة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة، الركن للطباعة والنشر 1993، صفحة 162).
(شروح في العقيدة، الجزء الثالث، الركن للطباعة والنشر 2015، صفحة 118 ).