Back

نبذة عن حياة سعاده

والده الدكتور خليل سعاده من الشويّر لبنان.
غادر الوطن تحت ضغط الأتراك العثمانيين إلى مصر.
في مصر نافح في طليعة المنافحين عن حقّ الشعب السوري.
نال لقب بك من خديوي مصر. رفض اللقب كلياً.
ألّف وكتب. وأهم ما وضع هو قاموس سعاده (إنكليزي عربي) كان قاعدة لكل ما جاء بعده.

 ضايق الإنكليز فضايقوه. ترك مصر إلى أميركا الجنوبية. أنشأ مجلة “المجلة” في الأرجنتين. وانتقل إلى البرازيل حيث أنشأ جريدة “الجريدة” وكتب فيها مقالات وبحوثاً غيّرت تفكير السوريين، حتى لُقِّب “بأبي الأحرار”.
كانت سلسلة مقالاته بعنوان “سورية وفرنسا أثناء مؤتمر الصلح” سبباً في حقد الاستعماريين عليه، فمُنعت كتاباته وأخباره من الوصول إلى الوطن. حمل على سياسة فيصل الضعيفة. وحمل حملة شديدة على الخونة المارقين. وذكرهم بأسمائهم وأفعالهم. عالج الشؤون السياسية معالجة دقيقة. وتكّهن بنتائج جاءت مصداقاً لبعد نظره في هذا الشأن. وهو أول من قال للغربيين: اتركوا آسيا للآسيويين قبل أن يطردوكم منها.
ترك مؤلفات وسلاسل بحوث في “المجلة” و “الجريدة” من أروعها سلسلة بعنوان طبائع الاستبداد.
توفي في العاشر من نيسان 1934. فنعاه أحد أدباء المهجر بلقب “أبي الأحرار” وقال فيه فيلسوف البرازيل سنسر فجريه: “إن البرازيل تحني هامها أمام الراحل الكبير الذي يفقده العالم”.
منعت السلطات الاستعمارية نشر خبر وفاته في الوطن.
كما منعت دخول ما كُتب عنه.

والدته السيدة نايفة نصير (من الشوير).
هاجرت بها أمها إلى الولايات المتحدة وأدخلتها مدرسة في شيكاغو فأظهرت توقُّداً ذهنياً نوّهت به إحدى صحف المدينة الكبرى وأطرت نبوغها وتفوّقها. عادت إلى الشويّر فتعرّف بها الدكتور خليل سعاده وتزوجها. وتحمّلت معه آلام العمل للمصلحة العامة وما سببه من متاعب من قبل المستعمرين.
توفيت في مصر عام 1913 وكان الزعيم في سنّ التاسعة وكان الوالد قد رحل إلى أميركا الجنوبية.

مولد الزعيم ونشأته

ولد في الشوير في أول آذار 1904. في الخامسة دخل مدرسة القرية فظهر تفوّقه الذهني. انتقل إلى مصر مع أمه وكان تفّوقه ونبوغه مدعاة للعجب، ولا عجب. بعد وفاة أمه عاد إلى مسقط رأسه الشويّر مع شقيقين وشقيقة، وثلاثتهم اصغر منه سناً. فدهمتهم الحرب، وأبوه مسافر في الأرجنتين، واخوته الأكبر منه: واحد في مصر، واثنان في الولايات المتحدة يتابعون دروسهم.
كان ابن عشر سنوات يتحمل مسؤولية شقيقين وشقيقة. وكان ذلك من حوافز تحمّله الآلام التي تحمّلها الشعب في تلك الحرب القاسية. ومما يرويه عنه الذين لا يزالون أحياء من الحرب العالمية الأولى إباءه وعزَّة نفسه، إلى جانب توقّد الذكاء فيه، مما جعله أحدوثة أهل بلدته على صغر سنِّه.

دخل مع من دخل من الأحداث مدرسة برمّانا، وكان الأتراك قد استولوا عليها – على إدارتها جملة. وقد أظهر تفوّقاً في الرياضة إلى جانب تفوّقه في الدروس.
صدف أن أعلن مجيء أحد كبار موظفي المتصرفّية الأتراك إلى المدرسة. واستعدّت المدرسة لاستقباله. وكان أن انتقي التلميذ المتفِّوق أنطون خليل سعاده لحمل العلم في طليعة الصفوف. فأخذ العلم ورفعه لحظة ثم رمى به أرضاً وانطلق إلى غرفته. تبعه أحد القائمين على الإدارة في المدرسة واستطلعه سبب تصرّفه ذاك، فأجاب: “لست أرفع فوق رأسي علماً لدولة مستعمرة شرَّدت أهلي وأنزَلت بشعبي كل هذا الويل الذي ترى”! وكَظَم المولج غيظه وكتم الأمر فلا يصاب هو بالضرر.
حال إعلان سقوط الجيش التركي ارتقى السارية وأنزل العلم. ونادى زملاءه ليعطوه علم البلاد ليرفعه، ولم يكن للبلاد علم. فزاد في كآبته.

في هذا الظرف عرف الفتى أنطون الألم. تحسس آلام الشعب وقد روى عنه أترابه انه كان دائم التساؤل ما جرَّ على شعبنا هذا الويل؟ وفي هذه السنّ كان قد تفتّق ذهنه ووضح توقّد ذكائه وزاد تأمّله بمصير شعبه. وكان لا يفتأ يقارن بين مصير شعب مغلوب على أمره يشرَّد أحراره ويشنق أبراره، وبين مصير الأقوياء.
بعد الاحتلال (بعد أن احتل الأوروبيون أرضنا على أثر رحيل العثمانيين) عمل ترجماناً مع أحد كبار العاملين وكانت له معه وقائع أدهشت ذلك الكبير، وأبرزها حين كان على ظهر باخرة إيطالية. وهو في سنّ السادسة عشرة، وسمع أحد الضّباط الإيطاليين يقول: هذا البحر بحرنا أي البحر الروماني. فانبرى الفتى أنطون في نضال علمي يؤكد أن هذا البحر لنا: البحر السوري، مما أدهش السامعين لما وضعت الحرب أوزارها أرسل والده يطلب منه السفر إليه، فقرر السفر وتركْ عمله. وفي إحدى زياراته للدكتور “دراي” في عيادته في الجامعة الأميركانية لأخذ مبلغ من المال كان أودعه إياه، سمع حديثاً جارياً بين عدد من الرجال كانوا بانتظار دورهم في عيادة الدكتور “دراي” (طبيب أسنان) وكان الحديث حول احتلال الحلفاء ومصير سورية (لم يكن قد وُجد كيان لبنان السياسي بعد). وانقسم المتحادثون إلى فئتين، إحداهما ترى أفضلية الانتداب الفرنسي والأخرى تفضِّل الإنكليز واحتدم الجدل في أفضلية إحدى الدولتين. ولم يكن قد وضح بعد مخطط الاستعمار كما إن الوعي القومي كان شبه معدوم،
وكان كل فريق يطري محاسن الدولة التي يراها أفضل “لحمايتنا”.
وعند احتدام الجدل قال أحدهم لنحتكم إلى هذا الفتى ونفضّ النزاع والتفت إلى الفتى أنطون وقال له “ما رأيك أنت أيها الشاب الصغير وأية دولة تفضّل ؟!” فأجاب الشاب الصغير: “ليس في الموضوع مجال للتفضيل فانتم جميعاً في غير دائرة الصواب”. “كيف ذلك ؟”.
“إنكم في مفاضلتكم بين بريطانيا وفرنسا نسيتم الأفضلية الوحيدة التي هي إرادتنا نحن كشعب لنا شخصيّة قوميّة، ولنا مؤهلات الاستقلال، بل التفّوق أيضا!”
فنهض رجل من بين الجميع وسأله عن اسمه واسم أبيه وبلدته. ولما أجاب انه أنطون ابن خليل سعاده من الشويّر، قدم له الرجل بطاقته قائلاً: “إني مستعد لأية خدمة تلزم”، وحدد له المكان والوقت، إذا طرأت حاجة. وكانت البطاقة تحمل اسم عمر الداعوق. وتحت الاسم كتب بقلم كوبياء – رئيس بلدية بيروت. (وقد نشرت إحدى الصحف حديثاً مع السيد عمر الداعوق يؤيّد صحة هذا الخبر).
كان هذا الحديث عام 1919. وفي عام 1920 سافر الزعيم واخوته إلى أميركا الشمالية (حيث كان كبير اخوته). وبعد حوالي السنة وافى والده إلى البرازيل حيث اشترك معه في تحرير “الجريدة”.
ما كاد يمر سنة على وجوده في أسرة تحرير “الجريدة” حتى بدأ اسمه يدور على السنة الأدباء والمفكرين من مواطنين وبرازيليين. وظنّ العديدون أن ما يُكتَب بتوقيع أنطون سعاده هو من وضع والده المفكر الكبير.
ولكن الحقيقة ظهرت وشيكاً فإذا بالشاب “الصغير السّن، الحديث العهد بالأدب والسياسة” كما قال بعض هؤلاء يصبح أحد أقطاب الأدب والسياسة في أوساط المغتربين في الأميركيتين.
كان الزعيم وهو يشتغل في التحرير، يتابع درس قضية وطنه وأمته وتحررها من جميع العوامل اللاقوميّة.
وقد بدأ أول عمل مستقل بتأسيس جمعية سريّة في البرازيل عام 1924- 1925. وتخلّى عنها حين شذَّت عن القاعدة التي أرساها لها وأصبحت علنية تعرف باسم “جمعية الرابطة الوطنية السورية” مركزها سان باولو. وفي مخلّفات الزعيم مراسلات تدل على سبب تركه المؤسسة التي أنشأها ونزع أعضاؤها إلى العمل السطحي المعلن.
ومقالات الزعيم منذ عام 1921 في “الجريدة” ومراسلاته تلقِّم المتشدِّقين حجراً بان ما قام به كان اقتباساً عن حركات أوروبية، إذ إن عمله كان سابقاً لأية حركة عرفت في أوروبا في ما بعد.
ظلَّت قضَّية الأمة السوريّة والوطن السوري شاغل الزعيم رغم كل ما واجهه من صعوبة في العمل مع أبناء امتنا المغتربين. وظن أن في انضمامه إلى جمعية “البنّائين الأحرار” يجد مجالا للعمل القومي، وكان والده رئيساً لأحد محافلها. وسرعان ما أصبح سكرتيراً للمحفل. ولكن اصطدم مرة أخرى بنزوع الذين اصطفاهم للعمل إلى الشؤون الخاصة والأعمال السطحية الضجّاجة، فاستقال من المحفل وترك الجمعية بسبب انصراف أعضائها عن العمل المفروض على كل مواطن، ألا وهو العمل لمصلحة أمته ووطنه قبل أي شيء آخر.
قام الزعيم بأعمال وباتصالات كثيرة في المغترب محاولاً وضع أساس عقائدي قومي يلفّ حوله الذين يتكلمون كثيرا بالشؤون الوطنية. وكان قد شارك والده تحمّل الصدمات من الذين تقولبوا سريعاً في القالب الذي وضعه لهم الاستعمار. وقد لاقى اشدّ الآلام من رؤية بضعة من الذين طالما نادوا باستقلال سورية ينحدرون إلى التعّصب للكيانات المفعولة لقاء رضى المستعمر في فلسفة الانحطاط: “إن لم يكن ما تريد فأرد ما يكون”.
كان الزعيم قد وضع خطط العمل حين لجَّ به الحنين إلى الوطن. وفي ما تبقى من مذكراته دليل على شدّة الدفع النفسي للعودة إلى ميدان الصراع الرئيسي في الوطن.
وفي شهر حزيران سنة 1930 حملته الباخرة جبّاراً مليئاً بالعزم إلى الوطن. وكانت أخبار الكتلة الوطنية قد ملأت أعمدةً عدة من صحف المغتربات فاستبشر خيراً. ومع أعضاء الكتلة الوطنية في دمشق بدأ اتصالاته. وبهذه الاتصالات زادت آلامه. فقد عرف كيف يتقن الساسة الألاعيب على الشعب وأحياناً كثيرة مع المستعمر لمصلحة المستعمر.

أما بالنسبة للفرنسيين فقد كان كافياً أن يكون ابن الدكتور خليل سعاده.
في الشام وضع بحثاً في القوميّة قدّمه إلى المجمع العلمي، فردّه الأستاذ محمد كرد علي وعليه ملاحظات تدل على بعد المجمع العلمي وقتذاك عن العلم، ولا سيما علم الاجتماع. وكتب مقالات في السياسة الخارجية في جريدة “الأيام” الدمشقية كانت فتحاً جديداً في الفكر والفن السياسيين. ولعل جوابه على خطاب “لويد جورج” البريطاني سيبقى القاعدة المثلى لذويّ الألباب في مدلول وحدة الشعب وحقّه الطبيعي في أرضه وتقرير مصيره.
عام واحد في دمشق كان كافياً لوضع تخطيط مصمم، هو عدم إمكان دفع حركة بعث في الامة، في أوساط أفسدتها السياسة وغرس فيها الاستعمار بذور التخاذل وعلّمها فن المناورة على الشعب، دون أن تضع له قاعدة وعي. فانتقل إلى بيروت.
“… بعد أن وضعت مبادئ القضية القومية التي هي مصدر جلاء الأفكار ووحدة العقيدة والاتجاه وأوقفت الاختلاطات السياسية الدينية في المسائل القومية من الوجهة النظرية شرعت في إيجاد الوسائل العملية لتحقيق القضية القومية. ولم تكن المهمة هيّنة في جوٍّ موبوء كجوّ الحالة المناقبيّة والأخلاقيّة السيئة التي أشرت إليها. ولكني وضعت قاعدة أساسية أتمشى عليها، وهي البحث عن العناصر الجديدة النظيفة وتعليمها المبادئ الجديدة وإفهامها قضية الأمة وتكوين حزب منها ينشأ بمعزل عن الاختلاطات المذكورة آنفاً نشأة صحيحة قوية بمعنوياتها، حميدة بمناقبها، سليمة بروحها صالحة لحمل أعباء القضية وقد توصَّلت بعد جهد إلى لمس قابلية ثلاثة أشخاص … !
ولكني رأيت أن استعين بهذا العدد غير المتجانس على القيام بالاختبار الأول لتأسيس الحزب. وبعد قليل من السير انكشف لنا مراوغة واختلاطات سياسية بدلاً من الأخذ بملأ القضية “.
ورأى الزعيم أن يكون طرد المنحرفين بصورة حلّ الحزب. “فدعوت الجميع إلى اجتماع حضره الدجّالان وأبديت لهم رغبتي في تأجيل العمل الحزبي إلى أن أكون قد وجدت استعداداً وتفاهماً تامَّين بين الذين يرغبون في السير معي، وان عملنا قد انتهى وان كل واحد حرّ …”
“أحببت أن اظهر هذه اللّمحة عن واقع إنشاء هذا الحزب العظيم وتوليد هذه النهضة القومية الجبَّارة لتدركوا مقدار الفساد الذي كان قد تغلغل في المعتقدات والمناقب والأخلاق في مجتمعنا. فمن أربعة أشخاص يجتمعون إلى صاحب الفكرة القوميّة اثنان يعتقدان إن القضيّة القوميّة ليست إلا وسيلة سياسية لبلوغ أغراض في نفسيهما ويجيزان لنفسيهما احتقار إخلاص رفيقيهما وسلامة طويتهما ويظنان إن المناقب والأخلاق ليست إلا صوراً شعرية وضعتها واعتمدتها لتوليد النهضة القوميّة …!”
كان مسكن عائلة خليل سعاده في الشويّر قد أصابه ما أصاب المنازل العديدة أيام الحرب العالمية الأولى: التهديم الكامل … وكانت قطعة الأرض مكان البناء قد ضُمَّت إلى أرض تخصّ الجيران.
ولهذا ولأسباب ماديّة – نفسيّة عمد إلى بناء “العرزال” على الرابية المطلة على البحر وجبال صنين في أرض تُركتْ إرثا له ولاخوته. الأسباب الماديّة كانت إن الزعيم كان يصرف كل قرش يحصِّله على شؤون الحركة، والنفسية إن بناء نفسيّة جديدة وعقليّة أخلاقيّة متجددة كان يحتاج مثل هذه الخلوة الرائعة.
ومما يذكر إن صاعقة أصابت إحدى الشجرات الخمس التي بني العرزال عليها، بُعَيد اغتيال الزعيم. أما الرفقاء فلا يزالون يجدّدون العرزال كل سنة فيكسونه بالأغصان الجديدة (اثر محاولة 1960 قطع رجال السلطة في لبنان الأشجار التي كان العرزال قائماً عليها واحرقوها لتوّهمهم إن إحراق العرزال هو من أعمال الانتقام الضرورية).

ويعرف الرفقاء والأصدقاء الذين عرفوا سعاده انه كان لا يملك إلا قميصين وبدلتين تنظّف الواحدة في حين تستخدم الأخرى. ولم يكن ذلك للحاجة الماديّة كما يتخّرف البعض بل لأنه كان يصرف كل ما يحصل عليه للحركة مضحَّياً بكل ما هو خاص.
نما الحزب نمواً طبيعياً بين 1932 و1935 واضطر الزعيم إلى القيام بعمليات تطهير جذرية واسعة. ومع هذا استمر العمل وأخذت الحركة تجد طريقها إلى النفوس.
“… وكان لا بدّ من اكتشاف خائن لأن رجال الحزب المركزيين كانوا مخلصين ومنزّهين … وتمكَّنَت دوائر الاستخبارات من اكتشاف أكثر من خائن ومأجور واحد، ولكن واحد منهم فقط تمكّن من انتهاز فرصة تشعّب أعمال الحزب والوصول إلى معلومات وثيقة عن مكان وجود أوراق الحزب وأسماء جميع العاملين المركزيين، فأعطى هذه المعلومات إلى دائرة الأمن العام …”
في السادس عشر من تشرين الثاني 1935 حصل أمر القبض على الزعيم وبضعة من الرفقاء المركزيين.
وكانت الصدمة الأولى مما زعزع بعض النفوس. لكن القدوة في الزعيم أخرجتهم من ذهولهم. ومنذ ذلك اليوم ابتدأت الثورة الروحية العملية على الخوف والخنوع والوجل والتهرّب.
أمام المحكمة الأجنبية المختلطة ردَّ الزعيم التهمة الموجهة إليه متهماً الاستعمار ذاته بتمزيق وحدة الأمة والوطن. وحكمت عليه المحكمة بالسجن ستة أشهر. وفي هذه الأشهر الستة وضع الزعيم كتابه الذي أصبح اليوم حجَّة في علم الاجتماع ونشوء الأمم: كتاب “نشوء الأمم”. قابل الزعيم حال خروجه من السجن الحالة عينها التي لاحظها في اليوم الأول للاعتقال: حالة الوجل والتهرب. ذلك إن المسؤولين فضّلوا أن لا تظهر قوة الحزب النامية في استقبال الزعيم. وأعطى الزعيم الحقّ للذين طالبوا بوجوب الحشد المظهر القوة.
لم تمضِ أسابيع إلا وكانت الحكومة اللبنانية مدفوعة من الاستعمار تشدد النكير على الحزب في حين تظاهر المستعمر “بفتح أبواب المفوضية السامية للزعيم أو لأي موفد منه”. لكن الردّ كان واضحاً صريحاً. أن الأبواب التي نريدها أن تفتح هي أبواب نفسية شعبنا لنهضته. وكان الاعتقال الثاني بعد بضعة اشهر من الإفراج من الاعتقال الأول.
وفي هذا الاعتقال الثاني قال أحد كبار قضاة ذلك العهد للزعيم في سجنه: ” أفضَل أن تلين، إذ ماذا يمنع أن نُسمِّمك ونعلن انك انتحرت؟” وخرج هذا الخبر من السجن إلينا في الخارج، وكانت ضجة للحقّ زعزعت أركان الباطل. فطلب المهددون إلى الزعيم أن يهدئ من غضبة رجاله بتصريح ينشر عليهم. فكان التصريح: “قيل إن تهديداً وجِّه إليّ فجوابي إن أنطون سعاده لا يوجَّه إليه مثل هذا القول”. أما جواب الزعيم المباشر للقاضي الكبير (وهو حي اليوم – 1960) فكان “فقش” إصبعيه وقال للقاضي: “إن حياتي تساوي عندي هذه “الفقشة” فماذا يضيرني الموت بعد أن انطلقت الحركة ولم يعد لانتصارها من مردّ؟ كان يزعجني أن أموت قبل إطلاق هذه الحركة الجبّارة، حركة بعث الأمة”.
ومرّت فترة أصبحت واضحة في السجل المكتوب كما إنها عميقة في سجل سير الحياة وتاريخ الأمة!
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود.
وهذا ما تمّ حين قام أحد المأفونين المأجورين يكتب في إحدى صحف البلدة، بيروت عن حياة سعاده الخاصة. فسجّل كيف انه اعتمد أحد أعوانه لتمويل إعادة إصدار “المجلة” في بيروت. وكيف انه كان يضطر لحمل رسائله بنفسه إلى البريد وكيف كان يعيش عيشة شظف بالرغم من الوعود المغرية التي رفضها وكيف انه كان عنيداً فلم يقبل مراتب عليا عُرضت عليه وعلى رجاله، وكان المدح ظاهراً في معرض الذّم، وإن كان ذلك رغم إرادة المأجور الكاتب.
وفي عام 1938 وبعد أن كان الزعيم قد وضع خطة جولة في المغتربات لنقل الثورة الروحيّة واليقظة القوميّة إلى نزالاتنا في مناطق عبر الحدود جاء من يؤكد أن مذكرة جلب قد أعدت للقبض على الزعيم. وان الزمرة كانت تعدّ مضبطة اتهام مختَلَقة يمكن أن يؤخَذ بها حقوقياً وكانت الحكومة تضع بعض القوانين لمحاكمته بموجبها، وكان إصدار “النهضة” (جريدة الحركة الأولى) على أثر السجن الثاني قد ألهب صدور العاملين استرضاء للمستعمر فعجّل الزعيم سفره بضعة أيام.
كان المتحكمون قد تعلّموا درساً من سعاده في سجنه الثاني حين رفض الخروج من السجن قبل أن يُفرَج عن جميع الرفقاء، ولهذا أعدّوا له مرّات وسائل لأخذه بجرم عادي يطبِّقون فيه عليه أقصى العقوبات. لكن الرجولة لم تكن لتلاقي فيهم جرأة الإقدام حتى وجدوا الوسيلة الفضلى اختلاق تهم جزائية وحقوقية ووضعوا لها القوانين. ولعل خطاب الزعيم في أول آذار 1938، وصدور كتاب نشوء الأمم وتجنيد الجزويت قوة ضد الحركة، وإنشاء الأحزاب الطائفية، وفشل كل هذه المحاولات وظهور قوة الحزب في الانتخابات عامئذ، كان من الأسباب التي دفعت إلى إعداد عملية اعتقال جديدة.
في سفره مرَّ الزعيم بدمشق وعمّان حيث قابل الأمير عبدالله بن الحسين، وأوضح له العقيدة ودعاه إلى العمل القومي الاجتماعي الصحيح، وكان أن اعتنق الأمير طلال العقيدة مما سبب غضب الاستعمار عليه، كما هو معروف حتى ألان.
وفي فلسطين جمع الرفقاء من ريع كتاب نشوء الأمم مبلغاً من المال، استبقى الزعيم القسم الزهيد منه، وبعث بما تبقى إلى مركز الحزب.
وفي فترة الراحة التي قضاها في قبرص تلقى برقيّة من بيروت كان الخوف قد أوحاها إلى مرسليها ممن كان الزعيم قد كلّفهم مراقبة الأمور، وقد سببت هذه البرقيّة عدم ارتياح الزعيم إلى مثل تلك الأعصاب الرخوة التي يدفع بها الوهم إلى أعمال لا تشعر بمسؤولية نتائجها.

في المغترب القسري

كل ما حصل للزعيم في المغترب القسري استمر حوالي تسعة سنوات هو في السجل المكتوب. فقد حملت رسالاته وأعداد “الزوبعة” كل ما تحمله عباراته في رسالته من الأرجنتين “إنني أعرف ما تعانون وتجهلون ما أعاني!”
في البرازيل سجن عام 1939 بوشاية واش صغير النفس، وبإهمال مرافقَين كانا قد وافياه من أفريقيا هما خالد أديب وأسد الأشقر. ولما ظهرت صغارة الواشي اعتذر حاكم الولاية إلى الزعيم مظهراً أسفه لكون الوشاية من مواطن لسعاده.
اشتدَّت عليه حملات الاستعمار وأذنابه بشكل مفجع لذويّ النفوس الكبيرة. وأية فاجعة يلاقيها المعلِّم أشدّ إيلاما من أن يبيع أبناء أمته الذين يعمل لعزِّهم، نفوسهم لمستعمر ضدّ باعث نهضة أمتهم !!
خانه خالد أديب مندفعاً وراء المغريات الخسيسة. فاضطر إلى طرده.
لاقى من تزمّت قليلي التدبر للأمور العليا ما رأينا نماذج عنه في رسالات نشرتها “الجيل الجديد” مؤخراً (في جريدة صدى الشمال صوت الجيل الجديد عدد من رسالات الزعيم نشرت لأول مرة).
صدف بُعَيد وصوله إلى بونس أيريس، أن زاره محررون من إحدى الصحف (السلام)، وشربوا الشاي معه، وصدرت الجريدة في اليوم التالي تعلن أن أنطون سعاده هو في برلين لخدمة هتلر.
أصدر “سورية الجديدة” في سان باولو فانحرف بها ممولوها عن الخطة المقررة لها، فتركها، واصدر “الزوبعة” في بونس أيريس الأرجنتين وكان محررها، وكثيراً ما اضطر للعمل في صفّ أحرفها.
رفض إلا أن يحصِّل ما يحتاجه للشؤون المعاشية. ورأى أن يقبل شراكة أحدهم (جبران مسوح). لكن هذا الأفاك سرق حتى الرسمال فاضطر الزعيم وزوجته المرأة المثال الأعلى للمرأة الرفيقة – الزوجة، أن يعملا عملاً متواصلاً لاسترداد السمعة التجارية وإيفاء ديون المحل التجاري. ولعل الكتابة في هذا الأمر تخفف من روعته، فيُترك إلى أن يُتاح له الشخص الأنسب لدقة التصوير.
حاول أحد المواطنين مدفوعاً من خصوم الحركة أن يشوِّه سمعة الزعيم المالية فتقاضاه الزعيم أمام قضاة الأرجنتين وأقام حكم العدالة فيه ثم سامحه بعد الحكم عليه.
اشترك بعض الذين وثق بهم الزعيم مع حكومة لبنان لمنعه من الرجوع إلى الوطن فيبقى لهم مجال التلاعب. لكن إصرار المخلصين على الزعيم بوجوب الرجوع العاجل جعله يترك الأرجنتين حيث لم يكن للبنان ممثل، وكأن الفرنسي مكلّفاً بتمثيلنا بعد، إلى البرازيل. وفي البرازيل استحصل الرفقاء على سمة الدخول من قنصل لبنان بالضغط، حتى إنهم لم يتركوه بعد التوقيع إلا والزعيم في طريق السفر.

العودة الى الوطن

في لبنان، وعلى شاطئ بيروت قرب المكان الذي ارتوى بدمه كان الجمع الغفير الذي استقبل الزعيم أكبر مما تمكن المتحكمون من استساغته، فمنذ الليلة الأولى أصدروا مذكرة لإلقاء القبض على الزعيم. وجرت محاولات استمرت من آذار إلى تشرين. واضطرت الحكومة لسحب المذكرة وهي قد أعدّت خطة الإيقاع بالزعيم وبالحزب.
في تشرين الثاني 1947 منعت الحكومة حشداً كان قد دعا إليه الزعيم لإظهار إرادة الشعب ضد مقررات الأمم المتحدة في مشروع تقسيم فلسطين.
وفي الحرب المهزلة التي قام بها ممثلو الدول العربية الهزيلون 1948 منع هؤلاء السلاح عن السوريين القوميين الاجتماعيين، وفي هزيمتهم الشنعاء أرادوا أن يغطّوا صغائرهم فكانت المؤامرة الحقيرة على الزعيم.
… وتألب مع الاستعمار المتهّود ملك مصر وملوك عرب آخرون، وملوك سوريون وحكومة لبنان وخيانة حسني الزعيم.
وفي 8 تموز 1949 تمّت أبشع عملية اغتيال قانونية عرفها التاريخ في أحلك فتراته.
واستمر سعاده رغم كل هذا حيّاً في الأمة الحيّة الناهضة.
ضرب الاستعمار حوله نطاقاً من الجواسيس، وفشلوا وحاول جماعة دول المحور الإغراء فانخذلوا.

كتب هذه النبذة المختصرة الرفيق جورج عبد المسيح (جريدة صدى الشمال – صوت الجيل الجديد العدد 86 تاريخ أول آذار 1960).

Leave A Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *