محور اهتمامنا هو الوجود من المحاضرة السادسة
“… في هذا المبدأ [المبدأ الرابع] يتّضح أنّنا لسنا من الذين يصرفون نظرهم عن شؤون الوجود إلى ما وراء الوجود. لسنا من الذين ينصرفون إلى ما وراء الوجود بل من الذين يرمون بطبيعة وجودهم إلى تحقيق وجود سامٍ جميل في هذه الحياة وإلى استمرار هذه الحياة سامية جميلة.
إذا قلت إنّ سورية هي التي نشرت الطابع العمرانيّ في البحر المتوسّط الذي صار أساسًا للتمدّن الغربيّ الحديث، فإنّي أقول ذلك بأدلة وثيقة حتّى من التاريخ الذي كتبه مؤرّخون هم من تلامذة المدرسة- الإقريكيّة- الرومانيّة، بعد انقراض المدرسة السوريّة للتاريخ. وعندما أقول تلامذة المدرسة الإقريكيّة- الرومانيّة للتاريخ أعني مدرسة التاريخ التي رمت إلى تشنيع كلّ صفة للشعب السوريّ بعامل العداوة بين السوريّين والأفريك أوّلًا ثمّ بين السوريّين والرومان أخيرًا.
ففي الصراع العنيف على السيادة البحريّة في المتوسّط بين السوريّين والإقريك أوّلًا ثمّ بين السوريّين والرومان، نشأ صراع قويّ جدًّا بين أدب الإقريك وأدب السوريّين، وبين أدب السوريّين وأدب الرومانيّين. وقد أتيت بلمحة صغيرة في حديثي الماضي عن كيفية تشويه الحقائق التاريخيّة مثلًا ما رواه «النبع» المصدر التاريخّي للحروب الفينيقيّة المعروفة بالتسمية (بونك) تحريف الفينيقيّة عن الإقريك.
فوليبيو هو المصدر الأساسيّ لكلّ من يريد أن يكتب في تاريخ الحروب الفينيقيّة الثلاثة التي نشبت بين قرطاضة ورومية. ففي رواية فوليبيو عن كيفية قطع هاني بعل لجبال الألب والبرنيز قصد تشويه هذه الحملة التي لم يسبق لها مثيل ولم تصل إلى عظمتها أيّة محاولة شبيهة بها من قبلها أو من بعدها. قال مخطّئا الذين يرون في هذا القطع لأعظم جبال في أوروبّا عملًا عظيمًا- قال إنّه سبق لجماعات بشريّة أن قطعت جبال الألب، وعنى بالذين عبروا تلك الجبال جماعات متوحّشة من الجلالقة أو غيرهم وأراد أن يقرن بين انتشار جماعات متوحّشة بغير قصد، تدفعها في ارتحالها عوامل عمياء أو اضطرار قاهر، وبين حملة عسكريّة مرتّبة منظّمة في الدماغ من قبل، مهيّأة بترتيب ومجهّزة بقصد واضح وترتيب للقيام بها مع تقدير لكلّ خطورتها وبقصد، ليس فقط اجتياز هذه الجبال، بل إخضاع العدوّ.
إن تصميمًا عظيمًا من هذا النوع لا يمكن أن يمثّل بجماعات متوحّشة يمكن أن تصعد وتنزل في الجبال. إنّ فرقًا عظيمًا بين هذين. مع ذلك لم يجد فوليبيو أيّ فرق ولم يرد أن يجد أيّ فرق لأنّه قصد في روايته لها أن يحقّر كلّ عمل قام من الناحية السوريّة.
هذا مثل واحد، وهنالك أمثال عديدة من هذا النوع تدلّ على كيفيّة رمي المدرسة الإقريكيّة- الرومانيّة التاريخيّة إلى تشويه الحقيقة السوريّة وعدم الاعتراف بأيّ فضل لها أو بأيّة قيمة. ولمّا كان لم يسلم، لا من حريق صور بعد فتح الإسكندر ولا من حريق قرطاضة بعد فتح سيبيو، كتب عن التاريخ السوريّ، أصبح التاريخ السوريّ وتأويل التاريخ ورواية التاريخ وقفًا على اتّجاه المدرسة الإقريكيّة- الرومانيّة التي بخست السوريّين حقهم في الإنشاء والإبداع والعمران.
الدليل إلى العقيدة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة، الركن للطباعة والنشر 1993، صفحة 149).
(شروح في العقيدة، الجزء الثالث، الركن للطباعة والنشر 2015، صفحة 106