محاولة شرح وتوضيح المحاضرة السابعة
ر. نايف معنوق
أوّلاً: يستهلّ سعاده المحاضرة السابعة بتذكير بما جاء في المبدأين السابع والثامن، وبشكل خاصّ المبدأ السابع؛
السابع القائل:” تستمدّ النهضة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة روحها من مواهب الأمّة السوريّة وتاريخها السياسيّ الثقافيّ القوميّ”.
والثامن القائل: “مصلحة سورية فوق كلّ مصلحة”.
(وقد ألحقنا هذا القسم بالمحاضرة السابقة، المحاضرة السادسة في السياق عينه).
ثانيًا: المبادئ الإصلاحيّة
المبدأ الإصلاحي الأوّل من المبادئ القوميّة الاجتماعيّة:”فصل الدين عن الدولة”.
ما هو الدين؟ وما هي الدولة؟ ولماذا الفصل بينهما؟
الدين:
– “الدين ظاهرة نفسيّة عظيمة الخطورة من ظواهر الاجتماع البشري”. (الإثم الكنعاني- نشوء الأمم).
– “نشأت هذه الظاهرة وارتقت بعامل تطوّر الإنسانيّة نحو سيطرة النفس وحاجاتها في شؤون الحياة”.(الإثم الكنعاني- نشوء الأمم).
– تطوّر الدين مع تطور البشريّة. (الإثم الكنعاني- نشوء الأمم).
– تطوّر الدين بطيء جدًّا، وفي هذا البطء سرّ خطورته. (الإثم الكنعاني- نشوء الأمم).
– “الدين في أصله لا قوميّ، ومنافٍ للقوميّة وتكوين الأمّة، لأنّه إنسانيّ ذو صبغة عالميّة”.(الإثم الكنعاني- نشوء الأمم).
– “الدين من الوجهة العقليّة هو نوعٌ من أنواع الفلسفة في تعليل مظاهر الكون وتقدير نهايته ومصير النفس البشريّة”.(الإثم الكنعاني- نشوء الأمم).
– “جميع الأديان الكبرى تُجمِع على فكرة أساسيّة واحدة، هي فكرة الله وخلود النفس والعقاب والثواب”. (الإثم الكنعاني- نشوء الأمم).
– جميع الأديان الكبرى “تختلف في جزئيّات تتعلّق بالمناقب والأخلاق بالنسبة إلى البيئة التي ينشأ فيها كلّ دين وحاجة الحياة لتلك البيئة”.(الإثم الكنعاني- نشوء الأمم).
الدولة:
– الدولة هي مظهر سياسي من مظاهر الاجتماع البشري. (نشوء الأمم – نشوء الدولة وتطوّرها).
– الدولة هي شأنٌ ثقافيّ سياسيّ بحت. (نشوء الأمم – نشوء الدولة وتطوّرها).
– لا وجود للدولة إلّا في المجتمع. (نشوء الأمم – نشوء الدولة وتطوّرها).
– “وظيفة الدولة هي العناية بسياسة المجتمع وترتيب علاقات أجزائه في شكل نظام يعيّن الحقوق والواجبات إمّا بالعُرف والعادة… وإمّا بالغلبة والاستبداد”.(نشوء الأمم – نشوء الدولة وتطوّرها).
– الدولة شأنٌ من شؤون المجتمع المركّب. (نشوء الأمم – نشوء الدولة وتطوّرها).
(ضرورة الرجوع إلى فصلي “نشوء الدولة وتطوّرها” و “الإثم الكنعانيّ” في كتاب “نشوء الأمم”).
لماذا الفصل بينهما؟
الإجابة عن هذا السؤال نتبيّنه من خلال الشرح والتوضيح المتعلّقين بهذا المبدأ، وفي سياق ما جاء في هذه المحاضرة.
نبادر إلى التأكيد، كما يؤكّد على ذلك سعادة، في هذه المحاضرة، وفي نصّ شرح المبدأ الأوّل، أنّ “في الدولة التي لا فصل بينها وبين الدين، نجد أنّ الحكم هو بالنيابة عن الله لا عن الشعب”.
وبالتالي فإنّ الملك أو الخليفة أو الرئيس أو الأمير الذي يدّعي أنّ سلطانه مستمدّ من الله لا من الشعب يجعله مطلق التصرّف بحياة الشعب وحاجاته، متجاهلًا كلّ مصلحة تخصّ الشعب. يرتكب ويظلم ويطغى ويبرّر ذلك بادّعائه أنّه يعمل ما يراه الله.
– وفي عدم الفصل بين الدين والدولة تنشأ عقبات تعرقل سبيل تحقيق الوحدة القوميّة، “وإنّ أعظم عقبة في سبيل تحقيق وحدتنا القوميّة وفلاحنا القومي” هو تعلّق المؤسسات الدينيّة بالسلطة الزمنيّة.
– فالمراجع الدينية تتشبث بمرجعيّة السيادة في الدولة وتقبض على زمام سلطاتها أو بعضها.
– المؤسّسة الدينيّة تدّعي أنّها مرجع للجماعات البشريّة وأحوالها، كونها، على ما تزعم، تحمل رسالة الدين، رسالة كاملة كليّة تشمل كلّ متطلّبات وحاجات ومقتضيات الحياة الإنسانيّة الروحيّة والمادّيّة.
– وانطلاقًا من هذا الزعم ترى نفسها أنّها الوسيلة المثلى لتوجيه حياة الإنسان، فتنزع لتكون السلطة العليا في الشؤون الروحيّة والعمليّة.
– هذه الحالة أدّت إلى انتفاضات الشعوب في وجه هذا التسلّط الذي فرضته المؤسّسات الدينيّة؛ انتفاضات تحرّريّة قامت “بين مصالح الأمم ومصالح المؤسّسات الدينيّة المتشبّثة بمبدأ الحقّ الإلهي والشرع الإلهي في حكم الشعوب والقضاء فيها”.
– والتشبث بمبدأ الحقّ الإلهي في حكم الشعوب، هو أمر خطر أدّى إلى استعباد الشعوب من قبل المؤسّسات الدينيّة.
– ولم تكتفِ هذه المؤسّسات بهذا المبدأ، بل ادّعت أنّ سلطانها مستمدٌّ من إرادة الله لا من الشعب؛ وبالتالي لا يحقّ للشعب أن يطالب هذه المؤسّسات بحقوقه، كونه، برأيها، ليس صاحب الصلاحيّة؛ والصلاحيّة هي عند الله وحده.
– من ناحية أخرى حين “خفّ نفوذ الدين في الدولة عن هذا الغلوّ، لم ترضخ السلطات الدينيّة لهذه الحال، بل نجدها تحاول دائمًا أن تظلّ سلطات مدنيّة ضمن الدولة، لا بل أن تسلب السلطات المدنيّة صلاحياتها، وتلتفّ عليها”، ليبقى لها مجال للتحرّك وللتدخّل ومحاولة لفرض بعضٍ من الهيمنة غير المباشرة.
– إنّ نزعة اعتبار المؤسّسات الدينيّة نفسها تحمل رسالة كاملة تفي بمتطلّبات الحياة الإنسانيّة ومقتضياتها، كما تحمل وحي الله وشرعه، هي نزعة ظهرت، منذ أطوار الإنسان الأولى، في جميع الأديان على السواء قبل اتّخاذ الدين شكله المعاصر المعروف في هذا الوقت.
النزعة الدينيّة في أطوار الإنسان الأولى:
– في البدايات كان الدين “ممزوجًا بالخرافات والسحر والأوهام”.
– حينها كان التشريع للجماعات ناتجَ الطرق السحريّة.
– حينها كان للمشعوذ أو الساحر أو العرّاف دور فعّال في التشريع للجماعات التي يعيش فيها.
– حينها كان الساحر أو المشعوذ يدّعي أنّه يأتي برسالة من سماء الأرواح.
– وفي هذه الرسالة ادّعاء أنّ الحياة تأخذ هذا الشكل أو ذاك، وعلى الإنسان أن يلتزم به.
– وعدم الالتزام بشرع هذه الأرواح، يجعل الأرواح تغضب وتقتصّ من الناس في قبورها.
المؤسّسات الدينية في ظلّ الأديان الإلهية الكبرى:
– بعد نشوء الأديان الإلهيّة الكبرى، واشتمالها على شرعٍ وتوجيهٍ للناس قوي محلّ السلطة الروحيّة في “تكييف حياة الإنسان السياسيّة والاقتصاديّة وفي جميع شؤونه”.
– ولأنّ سنّة التطوّر قاعدة حياتيّة طبيعيّة مستمرّة، فإنّ كلّ تطوّر كان يجلب حالات جديدة.
– والحالات الجديدة كانت تستوجب فهمًا جديدًا.
– وهذه الحالات الجديدة كانت تتطلّب أيضًا تشريعاتٍ جديدة.
– لكنّ كلّ ذلك كان يصطدم بالسلطة الروحية التي تعرقل الشؤون العمليّة على مختلف مستوياتها؛ ممّا أدى إلى نزاع بين المؤسّسات الدينيّة والشعب ثمّ بين الملك والشعب.
النزاع بين الملك والشعب:
– إنّ مصالح المؤسّسات الدينيّة، أو فيما كانت تعتقده مصالح لها، شكّلت ضغطًا على مصالح ترتقي إلى مستوى “المصالح القوميّة العامّة الكلّيّة”، وتضاربت معها.
– وقد أدّى هذا الضغط إلى نزاع بين الشعوب والمؤسّسات الدينيّة؛ أكان ذلك بين الشعوب وسلطة البابا في المسيحيّة، وسلطة الشعوب وسلطة الخليفة في المحمّديّة.
– هذا النزاع بدأ بعد ذلك بين الشعب والملك؛ كون الملك ادّعى بأنّه نائب عن الله يصرّف أحكام الله في حياة الشعب.
– هذا التكريس أو المسح المُدّعى جعل الملك مسيحَ الله، جعله مقدَّسًا، فباتت ملكيّته بالتالي مقدَّسة؛ ناهيك بحصوله على رضى أو بركة السلطة الدينيّة.
ما هي تداعيات ادّعاء الملك بأنه نائب عن الله؟
– الملك الذي يرى أنّ سلطانه مستمدّ من الله لا من الشعب، ملك لا يحترم إرادة الشعب، ولا يقيم وزنًا لها، ولا لحياة الشعب؛ فلو رأى أنّ سلطانه عائد إلى الشعب، لاختلفت النظرة إليه.
– إنّ زعمه هذا يجعله:
أ- مطلق التصرّف تجاه الشعب.
ب- يتجاهل ما يحتاج إليه الشعب.
ج- يوهم الناس بالقول إنّه يعمل بوحي رضى الله.
د- الإيهام هذا يظنّ أنّه يغطّي ارتكاباته ضدّ الشعب مهما بلغت من الظلم والطغيان.
الإرادة الشعبيّة تتقدّم:
– في النزاع بين الإرادة القوميّة العامّة وبين السلطة الدينيّة، ابتدأت الإرادة الشعبيّة تتقدّم.
– هذه الإرادة، الإرادة القوميّة العامّة، ابتدأت تربح، وتميل كفّتها على كفّة المؤسّسات الدينيّة.
– لقد زاد نفوذ الإرادة الشعبيّة التي ربحت على مبادئ الحكم بمبادئ الله.
– والثورة الفرنسيّة كانت الحدث الأبرز في هذا النزاع، حيث كان الانتصار الفاصل. كذلك بالنسبة للثورة الأميركانيّة التي سبقتها. علمًا أنّ هذا القول لا يغيّر من حقيقة ما رآه الزعيم في الثورة الفرنسيّة.(مراجعة مقالة “الحريّة وأمّ الحريّة” “تأمّلات في الثورة الفرنسيّة” تاريخ 14 تموز 1923).
– من هاتين الثورتين نشأت فكرة “الديمقراطية العصريّة” التي تعني “تمثيل الإرادة العامّة في الحكم”.
– “الديمقراطية العصريّة” “جعل الإرادة العامّة للشعب أو للأمّة الإرادة النافذة ومرجع الأحكام”.
– هذا المبدأ “الديمقراطي العصري” حقّق انتصارًا نهائيًّا في شأن تثبيت الإرادة الشعبيّة.
– قلّة من الجماعات الضعيفة الشأن أصرّت على الاستمرار بالعمل بمبادئ السلطة الدينيّة.
– ويعود ضعفها إلى التمسّك بمبادئ السلطة الدينيّة المعرقِلة والمحاصِرة لقدرة الشعوب وحيويّتها ولحركة التقدّم والرقيّ.
– والمعلوم أنّ الدولة الدينيّة أو التيوقراطيّة تتعارض مع الحركة المتمركزة. وتنفي تمركز الدولة القوميّة ضمن حدود الوطن. (التيوقراطية: “نوع من نظم الحكم، يجمع فيه الحاكم بين السلطتين الدنيويّة والروحيّة”؛ إنها “نظام سياسيّ يستمدّ قوّة حكمه من الله مباشرة لتدعيم سلطته الزمنيّة وتصريفها”).
– لماذا تتعارض الدولة الدينيّة مع كلّ حركة متمركزة؟ – لإنّه لا يوجد في الدين أمّة وقوميّات، بل روابط دينيّة.
– في الدين رابطة دينيّة تجمع المؤمنين بعضهم إلى بعض دون النظر إلى البيئات والأجناس وغير ذلك. فقط الوجهة دينيّة وبالتالي مقدّسة.
– وعليه يصبح الدّين “شيئًا سياسيًّا إداريًّا دنيويًّا”؛ يدعو إلى إلغاء الأمم والقوميّات؛ ما يعني أنّ المؤمنين بالدين الواحد مجتمع واحد مرجعهم “المؤسّسة للدين الواحد المتمركِز”، وليس للدولة القوميّة المتمركِزة.
– ففي حين ترفض السلطات الدينيّة كلّ حركة متمركِزة خارج دائرتها، فهي لا تقبل أيّ اعتراض على مركزيّتها الدينيّة.
– وإلى هذه المركزيّة الدينيّة يتّجه المجموع المؤمن الملتزِم والخاضع لهذه المركزيّة. فحين يكون مركز المسيحيين رومية إليها يتّجه هؤلاء فتفرض رومية سلطانها عليهم كما تشاء.
– وإلى تركيا تتجّه جميع الشعوب المحمّديّة حين يكون مركز السلطة الديّنيّة المحمّديّة فيها، منها تأخذ توجيهاتها الموجِبة.
– ففي زمن الخلافة التركيّة كانت المؤسّسات الدينيّة المحمّديّة تعمل باندفاع وثبات لمصلحة الدولة التركيّة قبل كلّ شيء. وبالتالي استفادت هذه الدولة كثيرًا من كونها مركزَ السلطة الدينيّة المحمّديّة.
– ورومية أيضًا استفادت من كونها مركز السلطة الدينيّة المسيحيّة؛ فكلّ الشعوب في أوروبة باتت تحت رحمة بابا رومية، باعتبار أنّ رومية كانت تقرّر مصير السياسة في القارّة الأوروبيّة؛ وفي دائرة هذه السياسة كانت رومية تحقّق مصالحها.
– استمرّت هذه النزعة الروميّة إلى حين بدأ تململ الشعوب من ثقل ممارسات السلطة الدينيّة. وما ساعد على ذلك “الأخذ بنظرات جديدة من التي تساعدها على التحرّر من رومية”.
– وفي إطار التململ، كانت الدعوة البروتسطنطية في ألمانيا؛ الدعوة هذه كانت عاملًا سياسيًّا هامًّا يتلخّص بالتخلّص من السلطة الرومانيّة.
– وهنالك عبارة يستعملها الألمان LOS VON ROM، التي تعني التحرّر من رومية.
– في هذه الدائرة غير الواقعيّة تبرز الوجهة الدنيا من الدين.
– وهذه الوجهة لم تعد صالحةً في عصرنا، وكانت كذلك في الطور البربريّ أو ما هو قريب منها.
– ولأنّها غير صالحة، فمن الطبيعيّ لا بل من الضروريّ، أن يحاربها الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ. إخراج الدين عن حقيقة صراطه هو ما يحاربه الحزب. ولا يحارب “الأفكار الدينيّة الفلسفيّة أو اللّاهوتيّة المتعلّقة بأسرار النفس والخلود والخالق وما وراء المادّة”.
بين القوميّة والجامعة الدينيّة :
– الجامعة الدينيّة تتعارض مع القوميّة عمومًا والقوميّة السوريّة خصوصًا:
1- تضارب مصالح المجاميع الدينيّة.
2- المسيحيّون المتمسّكون بجامعتهم الدينيّة، تتضارب مصلحتهم مع مصالح المجاميع الدينيّة الأخرى في الوطن الواحد.
3- في الجامعة المسيحيّة الدينيّة تذوب مصالح المسيحيّين مع مصالح من تربطهم بهم رابطة الدين كالفرنسيين والطليان والإنكليز وسواهم.
4- فالمسيحيّون الذين يبحثون عمّن تربطهم فيهم رابطة الدين فحسب، لا يمكن أن يصلوا إلى وحدةٍ حياتيّة اجتماعيّة، ووحدة اتّجاه مع المجموعات الدينيّة الأخرى التي يشكّلون معًا، في الأصل والواقع، وحدةً إثنيّة واجتماعيّة.
5- وعليه، وكونهم فئةً قليلة، فإنهم يقعون فريسة الإيعازات التي تأتي من فرنسة أو إيطالية أو إنكلترة، أي من الخارج، باعتبارها المجامع الدينيّة الكبرى التي يربط المسيحيّون أنفسهم بها.
6- مثل هذا التوجّه يُفقد المسيحيين الرابطة القوميّة في حياتنا الاجتماعيّة، وتصبح مصالحهم خارج دائرة المصلحة القوميّة، بل تتضامن مع مصالح الجماعات الأخرى، حتّى ولو كانت مصالح تلك الجماعات متعارضة مع مصلحتنا القوميّة، وتقاوم تقدّمنا القوميّ.
7- هي الحالة عينها بالنسبة للسوريين المحمّديين المتشبّثين برابطتهم الدينية؛ فمصالحهم تتضارب مع مصالح أبناء وطنهم من غير دينهم، وتتلاشى في الجامعة الدينيّة الكبرى التي هي أساسًا معرّضة لتقلّبات غلبة العصبيّات.
8- فالالتزام المحمّديّ بالرابطة الدينيّة، بدلًا من الرابطة القوميّة، تدفعهم إلى السير في اتّجاهات وإرادات بعيدة عن الحياة القوميّة، لا بل تعمل على إخضاع الحياة القوميّة لأغراضٍ غير أغراضها، وبالتحديد حيث تتمركز السلطة الدينية.
9- ولنا من العهدين العبّاسي والتركي خير مثال.
10- فحين كانت الخلافة في تركية، كان أمير مؤمنيها يتّخذها وسيلة لتأمين المصلحة التركيّة.
11- فبتبادل المصالح بين بريطانية وتركية، وبناء على طلبٍ بريطانيّ، كانت تركية تُصدر مناشير لمنع الثورات التحرّريّة في الهند. ذلك أنّ مصلحة تركية وخلافتها هي الأساس وليس مصلحة الهند التي كانت تقرّر على أساس دينيّ.
12- وليست الهند هي النموذج السلبيّ، بل سورية كذلك. فقد اعتمدها الأتراك وسيلةً لمصالحهم، من خلال السلطة الدينيّة. واللّافت في الأمر أنّه، رغم وضع حواجز التقدّم والرقي في طريق حياة الشعب السوري من قبل الأتراك، فلم تقمْ أيّ ثورة ضدّهم في أكثر من أربعة قرون.
13- خلاصة القول إنّ الجامعة الدينيّة تفكّك الوحدة القوميّة، وتثير المشاحنات والاصطراعت في ميدان الحياة القوميّة. و”القوميّة لا تتأسّس على الدين”. والدليل الجامعتان الدينيتان المسيحيّة والمحمّديّة.
المسيحيّة والمحمّديّة في ميزان الفشل والنجاح:
– هاتان الجامعتان لم تنجحا بكونهما جامعتين مدنيّتين سياسيّتين، بل كان نجاحهما بكونهما جامعتين روحيّتين ثقافيّتين.
– الجامعة الدينيّة الروحيّة لا تشكّل خطرًا، ولا تثير خوفًا.
– الجامعة الدينيّة المدنيّة السياسيّة لها خطرٌ كبير على الأمم والقوميّات ومصالح الشعوب. (وما نشهده اليوم في عالمنا العربيّ بشكل خاصّ، هو دليلٌ ساطع على الأخطار الكبرى التي تجلبها الجامعة الدينيّة المدنيّة السياسيّة؛ وفي العهد العثماني سابقًا دليلٌ أسبق).
الوحدة القوميّة هي الأساس:
– منطق خاطئ القول بأنّ أساس الدولة القوميّة هو الدولة الدينيّة؛ أو القول بأنّ الوحدة القوميّة لا يمكن أن تتمّ إلّا على أساس جعل الدولة القوميّة دولةً دينيّة.
– فالوحدة القوميّة قاعدتها أرضٌ واحدة وشعبٌ واحد، وبالتالي حقوقٌ قوميّة ومصالح قوميّة واحدة، حيث أبناء الأمّة الواحدة مشتركون متفاعلون متكاملون في مصالح واحدة وحقوق واحدة.
– فالمصالح والحقوق الواحدة هي التي تولّد وحدة الواجبات والإرادة القوميّتين.
– أمّا في الدولة الدينيّة، فالحقوق والمصالح هي حقوقٌ ومصالح دينيّة، أي حقوق ومصالح الجماعة الدينيّة المسيطرة.
– وفي الدولة الدينيّة تتساوى حقوق السوريين ومصالحهم من لونٍ دينيّ معيّن، وحقوق الآخرين ومصالحهم ممّن هم من اللون الديني نفسه، أو أنّ حقوق الآخرين ومصالحهم تفرض فرضًا على السوريين وإن كانت تتنافى مع واقع نفسيتهم.
– إشارة إلى أنّ المصلحة تعني “كلّ المقاصد والأغراض النفسيّة”، وكلّ مصالح المنافع العمليّة أو المادّيّة.
– “بهذه الفلسفة القوميّة الحقوقيّة تمكّن الحزب السوري القومي الاجتماعي من وضع أساس الوحدة القوميّة وإيجاد الوحدة القوميّة بالفعل”.
الناحية النفسية من مبدأ :”فصل الدين عن الدولة”:
– بداية، لا بدّ من التأكيد على ما ذُكر سابقًا، من أنّ النفسية السوريّة ليست نفسيّة شرقيّة؛ لسنا “نرفانيين”، نعمل على التخلّص من الحياة، ومن متاعب الحياة، ومن ألم الحياة، إلى الموت الهادئ، إلى السلام. فالسلام هو المطلب الأعلى الذي يطلبه “النرفانيّ”.
– لكأنّ “النرفانيين” يطلبون من الإنسان أن يدير ظهره إلى الحياة ومطالبها، ويتّجه نحو الفناء.
– ولأنّ نفسيتنا ليست نفسية شرقيّة في سياق المعنى الآنف، فإنّنا نتّجه نحو البقاء، مدركين المصاعب والمتاعب الحياتية، كما أنّنا نثق بكفاءتنا للاضطلاع بها، ونثق بمقدرتنا على حمل أتعابها بكلّ سرورٍ وطمأنينة، عاملين بتقدّم نحو الفلاح والتغلّب والمقدرة، لا نحو الفناء والخضوع والتلاشي.
من “الصراع الفكري في الأدب السوري” في ردٍّ على هيكل ونعيمة يتعلّق بهذه النقطة؛
أوّلًا: حسين هيكل باشا – مفكّر مصري.
نظر هيكل إلى الفنّ من زاوية “الشرق والغرب”:
– غموضٌ في تحديد الشرق و”تاريخه”. إذ لا تحقيق لتاريخ “الشرق” الذي يذكره، ولا لفلسفة ذلك التاريخ.
– لا تحقيق للمحمّديّة، كذلك، التي طبعها بالطابع الشرقي بطريقة استبداديّة جزئيّة؛ وحاول تجريدها من طابعها العمليّ انسجامًا مع واقع ماديّة حياة البيئة؛ خلافًا لما يتداوله الكتّاب والمفكّرون، أنّ من الصفات الممتازة في الدّين المحمّديّ أنّه عمليّ، وبالتالي لا يتجرّد من الحياة، ولا يطلب الفناء في وحدة الوجود.
نظر هيكل إلى المثال الأعلى للشرق كلّه:
– تحديدات استبداديّة ضيّقة في تحديد المثال الأعلى للشرق، وإدخال العالم العربيّ كلّه فيه.
– مثل هذه التحديدات يمكن أن يقبلها عامّة المتعلّمين وقليلو التعمّق من خاصّتهم؛ كونها بسيطة ولا تتطلّب جهدًا وإنعام نظر. وفي المقابل لا تشفي غليل من يمتلك العقل الفلسفيّ ولا تطمئنه ولا تجعله يقبل ذلك “مستقرًّا لتفكيره وشعوره”.
– إنّها تحديدات مسطّحة أبعد ما ترقى إلى رأي الدكتور خليل سعادة في “روحيّة الشرق الدينية”.
– رأي الدكتور سعادة أنّ الدين في الشرقيّ قطعة من حياته. فهو يحسب الحياة وسيلة لتشريف الدين لا الدين وسيلة لتشريف الحياة.
– هو وسيلة لتشريف الحياة من زاوية تقوى الله والفناء الروحي في وحدة الوجود.
– والدين وسيلة لتشريف الحياة والتسامي بها من المرتبة الحيوانيّة إلى مرتبة روحانيّة تطهّر الأخلاق وتزيل الفواصل المصطنعة القائمة بين الإنسان وأخيه على الصعيدين الوطنيّ والإنسانيّ.
– روحيًا لا سياسيًا، الدين للحياة ولتشريف الحياة وليس العكس.
– وفي هذا المفهوم فعلُ عقلٍ، يجعل منّا قوّة فاعلة. وهل وهبنا العقل لنحنّطه ونشلّ كلّ فعاليّة فيه؟
– فإذا كان الله قد خلقنا وأعطانا المواهب الفكريّة والعقل من أجل أن نعي ونفكّر ونقصد ونعمل، فهل هذه المواهب والعطاءات هي للتعطيل والشلّ والتقييد؟ هل كان عطاء الله عبثًا؟
– العطاءات الإلهيّة ليست عبثًا ولا يمكن أن تكون كذلك، وبالتالي فوجود العقل الإنسانيّ ليس عبثًا.
– عقل الإنسان وجد ” ليعرف، ليدرك، ليتبصّر، ليميّز، ليعيّن الأهداف، وليفعل في الوجود”.
– لا شيء يمكن أن يعطّل العقل، هذه الموهبة – القوّة الأساسية للإنسان.
– فالعقل هو الشرع الأعلى والأساسيّ، هو “موهبة الإنسان العليا، هو التمييز في الحياة”.
– فأيّ قاعدة تبطل فعل العقل، يعني أنّها تبطل التمييز والإدراك، وتاليًا تقضي على ميزة الإنسان الأساسيّة؛
– بالقضاء على هذه الميزة قضاء على إنسانيّة الإنسان، وجعله أقرب إلى درجة العجماوات المسيّرة بلا عقل وبلا وعيٍ.
– فسُنّة الله أو سُنّة الطبيعة هو أن يفعل عقلٌ ويميّز ويدرك؛ وحين لا يكون الأمر كذلك يعني أنّنا أمام عجماوات وجمادات لأنّ هذه هي السُّنّة الطبيعيّة بشأنها.
– لم يُعطِ اللهُ العقل للإنسان عبثًا، بل أعطاه هذه القوّة المدركة المميَّزة والمميِّزة من أجل أن ينظر في شؤون حياته، ويجعلها في خطّ مصالحه ومقاصده الحياتية الكبرى.
– فالله الذي وهب الإنسان هذه القوّة يستحيل أن يعطّلها بشرع جامدٍ سرمديٍّ يمتدّ من الأزل وإلى الأبد.
– فعقل الإنسان حرٌّ بإرادة الله، وبإرادة المصدر الذي نشأ عنه. وكذلك الإنسان – المجتمع الإنسانيّ حرٌّ للسير إلى ما هو أفضل له، وليقرّر ما هو الأفضل في حياته ولحياته.
– هو المجتمع الإنسانيّ بذاته ولذاته يقرّر مصيره الأفضل.
– والدين نفسه يقرّ مبدأ أن يختار الإنسان مصيره الذي يريد بملء حرّيّته.
– من هذه الزاوية، للحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ نظرة خاصّة في الدّين من حيث هو سياسيّ مؤسّساتيّ، ومن حيث هو اتّجاه دينيّ ونظرة إلى الحياة والقيم.
ثانيًا: الكاتب السوري ميخائيل نعيمة.
الشرق والغرب في نظر نعيمة:
– الشرق مُستسلم لا يحارب القوى الأكبر منه.
– الخليقة بنظر الشرقيّ كاملة لأنّها من صنع الإله الكامل.
– الشرق يقول مع محمّد:” قل لن يصيبَنا إلّا ما كتب الله لنا”، ويصليّ مع عيسى: “لتكن مشيئتك”، ومع بوذا* يجرّد نفسه من كلّ شهواتها، ومع لاوتسو** يترفّع عن كلّ الأرضيّات مع الروح الكبرى أو “الطاو”.
*- بوذا، بودا: (غوتاما)، بودا لغويًا هو الساهر اليقظ. الحكيم. هو مؤسّس ديانة أو فلسفة البوذيّة. ولد في القرن السادس ق. م. باحث فيلسوفٌ مفكّر اعتنى بالناحية الأخلاقيّة والمبادئ السامية.
** لاوتسو: حكيم وفيلسوف صيني، ولد في القرن السادس ق.م. في الصين الوسطى. يعتبر مؤسّس الديانة الطاويّة، وهي ديانة تدعو للتوازي والتعايش مع البيئة والسلام.
– الغرب يعتقد بقوّته ويحارب بها كلّ قوّة.
– الخليقة بنظر الغربيّ ناقصة ويعمل على تحسينها.
– الغرب يقول:”لتكن مشيئتي”. وإذا ما فشل في مسعاه، يكرّر محاولاته واعدًا نفسه بالفوز.
– وحين يدركه الممات يوصي ذرّيته بإكمال المسعى.
تعليق الزعيم:
– كلام نعيمة كلامٌ يتّسم بزخرف التعبير الأدبي الشعري ولا علاقة له بالوقائع والحقيقة الحياتية.
– هذا الكلام لا يتضمّن حقيقةً واحدة.
– كلامٌ ينمّ عن جهلٍ فاضح لشؤون الحياة وتطوّرها، منذ فجر الإنسانيّة، وجهل التاريخ وفلسفته.
– فالشرق- رغم عدم تحديده ليكون الكلام واضحًا ومحدّدًا- حاول من قبل “تحسين الخليقة، وكذلك الغرب. ولقد “حسّنت” الأديان الخليقة تحسينًا بارزًا وأكيدًا.
– لكنّ “تحسينها” وضع حدًّا لكلّ تحسين جديد. لأنّ أصحاب الأديان لم يقرّوا بأيّ معرفة جديدة إلاّ قسرًا ومكرهين.
– على سبيل المثال، لو قيل لأصحاب الأديان إنّ الشمس يمكن أن تقف أربعًا وعشرين ساعة حتى يمرّ يشوع بن نون، يقولون هذا صحيح، لأنّ هذا القول يوافق ما جاء في التوراة.[ يشوع بن نون شخصيّة توراتية، له ذكر في أسفار متعدّدة من التوراة. قيل ادّعاءً إنّه طلب من ربّه أن يوقف الشمس ليكمل القتال، لأنّه بات على قاب قوسين من النصر، فاستجاب له].
– أمّا إذا قيل لهم إنّ الأرض تدور وليس الشمس، مع البراهين والأسانيد العلميّة، فلا يسلّمون إلّا بعد عناد ومقاومة، وبعض هؤلاء لا يسلّم أبدًا.
الأديان و”تحسين الخليقة”:
– عيسى المسيح رمى إلى تأديب النفوس بقوله :لتكن مشيئتك”، ونقض ما اعتبر “منزّلًا” “يكمّل الناموس”.
– كان المسيح يقول إنّه يريد أن يكمّل الناموس، “جئت لأكمّل الناموس”، ما يعني أنّ الشريعة التي أعطاعا الله لموسى كانت ناقصة، وفي العمل لتكميلها نقض ما جاء ليكمّله نقضًا تامًّا.
– ومحمّد الرسول، الذي نشأ في بيئة بعيدة عن التفكير الفلسفيّ، المتعلّق بالقضايا الفلسفيّة الكبرى، نطق بالوحي “لكلّ أجَلٍ كتاب”؛ فكلاهما، المسيح ومحمّد، بشمول رسالتيهما، لم يمنعا “تحسين الخليقة”.
– وكذلك بوذا ولاوتسو أرادا “تحسين الخليقة”، وذلك واضح في تعاليمهما. [أقوال من بوذا ولاوتسو].
– العقليّة الشرقيّة عجزت عن إدراك هذا المستوى من الفهم.
– عن “حلّ قيود الروح المادّيّة بنظرة إلى الحياة والكون فاهمة”.
– العقليّة الشرقيّة لم تتجاوز أو تتخطّى الأحكام الدينيّة وتعليلاتها الافتراضيّة المستنِدة إلى إلى قوّة أكبر منها.
– تلك الأحكام كانت متباينة فيما بينها. لقد جعلت الخالق الواحد “ينزّل” تعاليم غير واحدة تتعلّق بحياة الإنسان ضمن الوجود وقبل “الفناء في وحدة الوجود”.
– والتكلّم على “الخليقة” و “تحسينها”، اختاره نعيمة ليضع القارئ أمام الاصطلاح المستعمَل.
– بيد أنّه لم يُصب في تفكيره، إذ إنّ الصين تركت “جوهر” الخمول، وأخذت بــ “عرض” النهوض دون التخلّي عن القواعد الصالحة من تعاليم لاوتسو.
– وبالتالي فإنّ كلام نعيمة هو كلام أديب، وليس كلام فيلسوف أو عالم أو فنّان.
– مثل هذه النفسيّة هي نفسيّة مذعنة لكلّ “ما كتب الله أن يصيبه”؛ وترى أنّ هذا الخضوع هو “أجمل المثل وأحبّها وأفضلها.”
– ” الفناء في وحدة الوجود” ابتغاء من يهرب من الحياة إلى النرفانا، وبالتالي يعدم المواهب التي أُعطيت له. إنّ له مصيرًا واحدًا هو مصير الإذعان والاستسلام.
– إنّ الذين يستسلمون للمفعول لهم مصيرهم؛ والذين يعملون بموجب المواهب التي أُعطيت لهم، مصيرهم أن يكتب الله لهم ما استحقّت مواهبهم. [استعمال كتب بالمضارع وليس بالماضي،لأنّ ما كتب الله هو المفعول وليس القصد، والقصد هو للحاضر المستمرّ، وللمستقبل]
– التداعيات السلبية لصوفيّة نعيمة: والصوفيّة :منهج أو طريق يسلكه المرء للوصول إلى الخالق عن طريق الزهد بالدنيويات، والانصراف إلى العبادة والتأمّل.
• صوفيّة نعيمة دعوة إلى عدم التسلّح.
• “إنّ القوّة في الأمم العاجزة “المستغنية” عن التسلّح”، (وإن يكن استغناؤها قهرًا أو كرهًا). وإنّ الضعف هو في الأمم المستكثرة من آلة الحرب”.
• مثل هذه الصوفيّة الهدّامة ترفضها سورية رفضًا قاطعًا، ولا تفكّر في جعلها مثالًا أعلى لها.
• المطلوب أن نعدّ جيشًا قويًا، وأن نتسلّح، وأن نهبّ لتحقيق مثلنا العليا، وأن لا نستسلم؛ بذا نكون أقوياء؛ وعكس ذلك هو القوّة برأي نعيمة.
• ويضيف نعيمة أنّ الأمم العظمى التي تبني ذاتها تسلّحًا وأساطيل ومعدّات واختراعات واكتشافات، هي خائفة وجبانة وضعيفة. ويبدو أنّه عبّد الطريق للقائلين بعده: “قوّتنا بضعفنا”.
• ويبدو أنّ نعيمة لم يعرف المقولة الشعبيّة “الما عندو شي ما بيخاف على شي”، أو أنّه يعرفها ويغضّ الطرف عنها. ونحن لسنا ولن نكون من هذه الفئة.
– نحن قوّة فاعلة في الحياة.
– نحن قوّة لها مقاصد لا يمكن أن تحدّد أو أن تحوَّر إلّا إذا كنّا غير جديرين بالاضطلاع بها.
– وعدم أهليّتنا وجدارتنا مردّها إلى الاستسلام بطلب الفناء الروحي، والهروب من متاعب ومصاعب الحياة. وعدم أهليّتنا وجدارتنا يكون بالنظر إلى الحياة كمدىً مليء بالآلام والشقاء والتعب؛ وأنّ الغاية العظمى الكبرى هي الخلاص الأخير من العذاب والتعب والشقاء، وأنّ هذا لا يحصل إلّا بالموت الأبديّ الهانئ، إلى النرفانا التي هي كلّ الحياة وكلّ ما في الحياة.
– نحن نرى أنّنا قادرون على حمل متاعب الحياة والانتصار عليها، وبالتالي لسنا مستسلمين لها أو لسواها.
– نحن لا ننوء ولا نرزح بحمل المتاعب، بل ننتصر عليها ونحقّق وجودنا مثالًا أعلى بمرحٍ وانشراح.
– تحقيق وجودنا يتمّ من خلال العمل على انتصار عقيدتنا التي هي التعبير عن حقيقة حياتنا؛ وبالتالي فوجودنا هو الواقع والحقيقة، وليس وهمًا أو عبثًا أو افتراضًا إلّا عند أولئك العاجزين عن تحقيق الحياة الحرّة في الوجود.
– نحن نطلب حقيقتنا بذاتها التي هي انتصار النفس السوريّة على كلّ معوّقات حياتها، على كلّ ما يعترض سبيل نهوضها، وكلّ ما يعترض سبيل تحقيق مثلها العليا، ومقاصدها الكبرى.
*****************
المبدأ الإصلاحي الثاني: “منع رجال الدين من التدخّل في شؤون السياسة والقضاء القوميّين”.
– ترابط وتتابع بين هذا المبدأ والمبدأ السابق “فصل الدين عن الدولة” سياسيًّا وحقوقيًّا وقضائيًّا.
– إنّ محاولة المؤسّسات الدينيّة بصفة السلطة المدنيّة، أو اكتساب هذه الصفة، هي التي فرضت وضع هذا المبدأ، خاصّة وأنّ الصفة التي يحاولون اكتسابها، أصرّوا على تنفيذها حتّى بعد وضع المبدأ الأوّل “فصل الدين عن الدولة”.
– المؤسّسة الدينيّة حين تصبح وجهًا لوجه أمام القانون تحاول أن تفسّر القانون وتؤوّله بما يكسبها تعويضًا عمّا خسرته بنصّ القانون وبحالة نظام الدولة.
– ولا بدّ في هذا السياق من وضع حدٍّ لتدخّل المؤسّسات الدينيّة في الشؤون السياسيّة والمدنيّة إن بطريقة مباشرة أو بأخرى غير مباشرة لجعل الأمور تسير بما يخدم مصالحها.
– “… وكما يؤدّي تدخل رجل الدين، من حيث هو رجل دين، في معالجة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى إفساد عمل الخبير بالشؤون الاقتصادية الاجتماعية والسياسية وعلاجه”.(ردّ الزعيم على البطريرك عريضة).
– ولكي لا يبقى معنى فصل الدين عن الدولة ضبابيًّا أو حائرًا ويتعرّض لتأويلات غير صحيحة، كان نصّ المبدأ الإصلاحي الثاني؛ فالإصلاح يجب ألّا يقتصر على الوجهة السياسيّة، بل يجب أن يتناول الوجهة الحقوقيّة القضائيّة كذلك.
– هل يمكن أن تستقيم الأحوال القوميّة في ظلّ تعدّد القضاء أو تضاربه أو تقسيمه على المذاهب الدينيّة؟
– ألا يمنع ذلك وحدة الشرائع الضروريّة لوحدة النظام المنبثق عن وحدة الحياة؟
– في وحدة الدولة القوميّة الاجتماعيّة يجب أن يكون القضاء والشرع واحدًا. لأنّ وحدة القضاء يجعل أعضاء الدولة يشعرون أنّهم متساوون أمام القانون الواحد. إذ لا يمكن أن تكون العقليّة واحدة ونعمل بمفاهيم متعدّدة ومختلفة تتنافى مع وحدة المجتمع.
– ليس صحيحًا قول البعض إنّ الدين مفصول عن الدولة في لبنان وسائر الكيانات السوريّة، مستندين إلى أن لا “بابا” ولا “خليفة” يعطي أوامر للتنفيذ.
– هل هذا المستند يكفي للقول بأن الدين مفصولٌ عن الدولة؟
– ألا نرى أنّ الشرائع دينيّة والقضاء دينيّ؟ وماذا يعني أنّ الأحوال الشخصية والمعاملات بين الناس يعود كلّ ذي مذهب فيها إلى مذهبه ليفسّرها ويضع القوانين انطلاقًا منها، وتُصدر “المحاكم الروحيّة” أحكامها على القواعد المذهبية الخاصّة بها؟
– والقضاء الدينيّ بشرائعه الدينيّة له وجهة نظر خاصّة إلى الحقوق؛ ما يؤدّي حتمًا إلى نشوء عقليّات متضاربة بشأن الحقوق، ومتضاربة مع العقليّة التي تفهم الحياة ومجرى الحياة الإنسانيّة.
“… وإلى هذا التأخّر في الإدراك العام تعزى خطورة المواقف البطريركية السياسية. وفي هذا التأخّر في الإدراك تجد أسباب امتداد نفوذ رجال الدين السياسي إلى هذه الأيّام والعامل الأساسي في بقاء هذا النفوذ ذا شأن هامّ في تقرير مصير القضايا القوميّة والسياسيّة”.(الردّ على البطريرك عريضة).
– واستمرار مثل هذه الحالة – بقاء القضاء بيد رجال الدين يحكمون في المعاملات ويصرّفون الأمور- إنّما يمنع نشوء عقليّة واحدة ووحدة نظر واحد في القضايا السياسيّة الحقوقيّة في الشعب الواحد، ما يشكّل عقبةً كأداء وصعوبات جمّة أمام توليد وحدة قوميّة صحيحة معافاة.
– “…كانت الجماعة الدينية لذلك العهد ذات شأن خاصّ ومطالب خاصّة وكانت لها صفة الوحدة السياسية. وكان تمثيلها السياسي تمثيلًا دينيًّا وكان تمثيلها الدينيّ تمثيلًا سياسيًّا، فإذا أرادت دولة أن تعرف موقف الجماعة الدينية السياسي كانت تلجأ إلى رئيس تلك الجماعة الديني فكان يتكلّم باسمها وكانت تجتمع حوله وتؤيّده”. (الردّ على البطريرك عريضة).
– فمن أجل تحقيق الوحدة القوميّة يجب “منع رجال الدين من التدخّل في شؤون السياسة والقضاء القوميين”.
– وفي منعنا رجال الدين من التدخّل في شؤون القضاء والسياسة إنّما نساعدهم على الرفع من شأن ومنزلة الدين واحترامه؛ لأنّ تدخّلهم فيهما أساء إساءة كبرى إلى الدين؛ فها هو الشيخ والمفتي والسيّد والبطريرك وآخرون يسعون جاهدين للعمل السياسيّ، انتخابيًا ووظائفيًا أكثر من انهماكهم في الأمور الدينيّة الروحيّة.
*****************
المبدأ الإصلاحي الثالث: “إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف”.
– المبدأ القاعدة في هذا السياق هو أنّ “كلّ أمّة تريد أن تحيا حياةً حرّة مستقلّة تبلغ فيها مثلها العليا يجب أن تكون ذات وحدة روحيّة متينة”
– وكلّ تنافر في المجتمع الواحد يؤدّي إلى خللٍ في الحياة الاجتماعيّة، ويضعف وحدة الشعب.
– والضعف القائم الذي يورث نتائج سلبيّة إنّما يعود إلى “التقاليد المتنافرة المستمدَّة من مؤسّساتنا الدينيّة والمذهبيّة”.
– هذه التقاليد المتنافرة تضعف الوحدة القوميّة اجتماعيًّا واقتصاديًّا، كما تؤخّر نهضتنا القوميّة الاجتماعيّة.
– كما أنّ الحواجز التقليديّة القائمة تعطّل كلّ الدعوات إلى الحريّة والاستقلال التي تذهب هباءً. فصيحات الألم تبقى صيحات ألم، وتأوّهات العجز تبقى تأوّهات عجز، ويبقى الداء داءً إن عرفنا الداء وطبيعته وأوجدنا الدواء ولكنّنا تجاهلناه.
– نحن السورييّن القوميّين الاجتماعيّين نعرف الداء ولدينا الدواء ونستعمله؛ ولا نفعل كالدجّالين المرائين الذين “يدعون إلى الاتّحاد ويجهلون روابط الاتّحاد وينادون بالوحدة ولا يقصدون منها سوى غرضٍ في النفس”.
– فليس من الضروريّ إيمانيًا مثلًا أن يصف الأرثوذكسيّ الكاثوليكي بأنّه هرطوقيّ، أو أن يحسب السنّيّ العلويّ كافرًا.
– إنّ هذه الأوصاف وأمثالها تصبّ في خانة التنافر والكيد الذي يضرّ بالحياة القوميّة.
– الروحيّة الواحدة المتينة هي التي تبني لعمليّة النهوض التي يعمل لها الحزب السوري القومي الاجتماعي.
– الوحدة الروحيّة المتينة تكون بواسطة روحيّة واحدة، ونظرة واحدة إلى الحياة والكون والفنّ، وبواسطة مفاهيم ومقاييس واحدة، ووحدة إرادات ومصالح في الشعب الواحد – الأمّة الواحدة.
– بهذه الروحيّة يمكننا الحديث عن أخوّة قوميّة تتأمّن فيها حقوق الأخوّة الحقيقيّة، لا مكان فيها للتنابذ والتنافر والحرمان، ولا مكان فيها لأيّ فئة لا تختلط مع فئةٍ أخرى في الشعب الواحد.
– وبغير هذه الروحيّة يثار الشعور بالفوارق بين أبناء الأمّة الواحدة، إذ ينتفي التساوي في توزيع أيّ شيء على العموم؛ بل يقال لهذه الفئة كذا، ولتلك الفئة كذا؛ لكأنّنا نضع الحواجز في طريق الوحدة الاجتماعيّة؛ فكيف يكون الشعب واحدًا وهذه الفئة مثلًا لا يمكن أن تختلط مع فئةٍ أو فئاتٍ أخرى.
– إنّ “الحواجز الاجتماعيّة – الحقوقيّة بين طوائف الأمّة الواحدة تعني إبقاء داء الحزبيّات الدينيّة الوبيل”.
– فثورة 1925* بقيت قاصرة عن أن تصبح ثورة سوريّة اجتماعيّة لأنّ الطوائف الأخرى أحجمت عن المشاركة فيها، ووقفت تتفرّج وتقول (يضرَبوا ببعضهم).
* الثورة السوريّة: ثورة انطلقت في الكيان الشامي في 21 تمّوز 1925، ضدّ المستعمر الفرنسيّ، بقيادة سلطان باشا الأطرش.
– “يجب تحطيم الحواجز المذكورة لجعل الوحدة القوميّة حقيقةً ولإقامة النظام القومي الاجتماعي الذي يهَب الأمّة الصحّة والقوّة”.
– إنّ لنا نظرة روحيّة منبثقة من نظرتنا إلى الحياة والكون والفن، وهذه النظرة عبّر عنها الزعيم في خطاب عام 1937 في أميون الكورة حيث قال:” إنّ العالم قد شهد في هذه البلاد أديانًا تهبط من الأرض إلى السماء، أمّا اليوم فيرى دينًا جديدًا من الأرض رافعًا النفوس بزوبعةٍ حمراء إلى السماء”.